الدكتور الحبيب الشوباني
المقالة الخامسة
تحولات أساسية في “المسألة اليهودية” إبان عصر التنوير: المال والمعرفة
- في عالم المال والاقتصاد، لم يكن اليهود إلى حدود القرن 18م مُلّاكا عقاريين ولا أغلبهم سكانَ بوادي وقُرى، بسبب منعهم مـن تملـك الأراضي، لذلك عاشوا شتاتهم في حصار اجتماعي واقتصادي داخل “جيتوهات حضرية“. يساعد هذا الوضع على تفسير “العلاقة التاريخية لليهود بالمال والفوائد الربوية” بتداخل أربعة عوامل: (أولا) الحرص على جمع المال بجميع الطرق لمواجهة أوضاع التضييق الاقتصادي المزمن، والمنع الممنهج من تملُّك الأصول العقارية المنتجة تجاريا وفلاحيا، (ثانيا) الخبرة التاريخية بما يوفره “اقتصاد الحقيبة وليس اقتصاد الأصول العقارية” من مرونة في الهجرة السريعة من الأوطان كلما داهم خطر الطرد ومصادرة الممتلكات، (ثالثا) الحاجة الدائمة للسيولة المالية لدفع الاضطهاد وشراء الأمان بالعمولات، أو لصناعة الحظوة لدى الملوك والنافذين في مؤسسات الحكم، أو لتوظيفه في التأثير على صناعة القرار السياسي والاقتصادي، (رابعا) النظرتة الدينية ل”الغوييم” التي تُبيح ترويج المال بالقروض الربوية، خارج أي دورة اقتصادية طبيعة ومشروعة مع المسيحيين، معتمدين في ذلك على ترخيص الشريعة اليهودية المعاملات الربوية مع “الأغيار” وتحريمها مع اليهود (جاء في سفر التثنية: 23؛ (19) لاَ تُقْرِضْ أَخَاكَ بِرِبًا، رِبَا فِضَّةٍ، أَوْ رِبَا طَعَامٍ، أَوْ رِبَا شَيْءٍ مَّا مِمَّا يُقْرَضُ بِرِبًا،(20) لِلأَجْنَبِيِّ تُقْرِضُ بِرِبًا، وَلكِنْ لأَخِيكَ لاَ تُقْرِضْ بِرِبًا، لِكَيْ يُبَارِكَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ فِي كُلِّ مَا تَمْتَدُّ إِلَيْهِ يَدُكَ فِي الأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ دَاخِلٌ إِلَيْهَا لِتَمْتَلِكَهَا).
- في كتابه “أعداء السلام والتقدُّم” يصف الطبيب الجراح الروسي “جيورجي فيدوروف” (1869-1936) كيف تمكَّنت البورجوازيَّة اليهوديَّة من احتلال مواقع راسخة في العالم الرأسمالي أثناء عمليَّة تطوُّر الرأسماليَّة، بالقول أنَّه في القرن 19 وبداية القرن 20 احتكر المموِّلون اليهود في وسط أوروبا “رأس المال الجاري/ السائل“، ولعبوا في ألمانيا والنمسا والمجر دوراً هامّاً في مجالات المصارف وتجارة التصدير والاستيراد؛ وفي بولونيا وليتوانيا ورومانيا احتكروا جانبا كبيرا من نشاط التجارة والصناعة لقرون؛ وفي روسيا كان 55% من تجَّار طائفتي الحرفيّين الأولى والثانية من اليهود، وكانت حصَّتهم تعادل 40% من إجمالي حجم دورة التبادل التجاري. وفي النصف الأوَّل من القرن 19 قدَّمت شركة مصارف روتشيلد 44 قرضاً أجنبيّاً إلى مائتي بلد من بينها بروسيا وفرنسا، وروسيا، والبرازيل، واليونان. وبلغت قيمة هذه القروض 130 مليون جنيه إسترليني، وهو رقم فلكي في زمانه.
- تحولت تدريجيا قوة المال اليهودي إلى أداة نفوذ وهيمنة وتحرر من النظرة الدونية للمجتمعات المسيحية؛ بموازاة ذلك، اهتم اليهود بالمهن الحرة فتخصصوا في الطب والاقتصاد والفيزياء والقانون والفلسفة والتاريخ والإعلام، وإدارة المال والأعمال، وغيرها، فبرز منهم على امتداد القرون الأخيرة مفكرون ورواد علوم في مختلف المجالات الطبيعية والإنسانية ( …Montaigne, Spinoza, Freud, Lévi-Strauss, Marx, Einstein, Marie Curie, Oppenheimer, Adorno, Horkheimer, Marcuse..إلخ). فتم برمزية هذه الشخصيات “اليهودية الأوروبية” تجسير وترميم العلاقة بين اليهودي الجديد واللاشعور الجمعي الثقافي الأوروبي، الذي بات أقل مسيحية وأكثر إقبالا على التماهي مع الثمار العلمية والفكرية والاقتصادية للتنوير والحداثة؛ فأصبح اليهود بالحضور المالي والفكري المؤثر من رموز الفكر وروادا للتجارة والأعمال وصعود الاقتصاد الرأسمالي. كما أدى هذا الاستثمار المزدوج في المال والمعرفة، والمرتبط عضويا بالانشغال المتصل لإيجاد حل ل”المسألة اليهودية”، إلى تبادل اعتماد فعال بين ثمرات فكر النزعة الإنسانية لفلاسفة التنوير، والانخراط السياسي القوي والمنسق لليهود في الحركات السياسية، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، للدفاع عن حقوق مبادئ المساواة والمواطنة بخلفية فلسفية وسياسية لحل “المسألة اليهودية” في المجتمعات الأوروبية.
- أشهر المساجلات الفلسفية والسياسية التي دارت حول “المسألة اليهودية“، عاشتها ألمانيا في خضم الرجّات الزلزالية التي أحدثها فلاسفة التنوير منذ القرن 17، والثورة الفرنسية (1789)التي جسدت مشروع الفكر الثوري ل J.J.Rousseau (1712-1778) مُنَظّر ونصير “الإرادة العامة للشعب“. بدأ السجال بصدور كتاب اللاهوتي البروتستانتي والمفكر اليساري الهيجلي Bruno Bauer سنة 1843، اعترض فيه على مطالب اليهود للدولةَ الألمانية لتحريرهم بالمساواة مع المسيحيين. وقد علَّل Bauer اعتراضه باستحالة تحرُّر اليهودي كيهودي، لأن جوهره الديني لا يقبل المساواة، والجوهر المسيحي للدولة لا يسمح لها بتحريره؛ أي إن مشكلة اليهودي مع دين الدولة، ومشكلة الدولة مع دين اليهودي. لحل هذه “المعضلة” يرى Bauer ضرورة النظر للمسألة في بعدها العالمي الإنساني، أي أن الحل يكمن في استبعاد الدين من علاقة الدولة بمواطنيها، وإفساح المجال لجعل العلاقة بين الطرفين مدنية، نقدية وعلمية، وتفاعلا إنسانيا.
- ردَّ ماركس على كتاب Bauer بكتاب مضاد رفض فيه المقاربة التحليلية الدينية ل”المسألة اليهودية”، وهو ما ساهم في اندلاع نقاش فلسفي واسع حول طبيعة العلاقة بين المجتمع المدني والدين والدولة. استرجع ماركس مضمون احتجاج Bauer على مطالب اليهود الأنانية الذي صاغه في تساؤله الاحتجاجي الشهير: “باسم أي شيء تطالبون أيها اليهود بالانعتاق؟ أمن أجل دينكم؟ إنه الدين الأكثر عداء لدين الدولة. كمواطنين؟ ليس في ألمانيا مواطنون. كبشر؟ لستم بشرا، شأنكم شأن من توجهون إليهم نداءكم“(). أنتج ماركس جوابا لهذا التناقض منسجما مع جدليته المادية، ومع نظريته في نقد الدولة اللبرالية والاستغلال الطبقي والسيطرة البورجوازية؛ أي رفْض القول بأن التحرر مرتبط بالوعي الديني أو بالهوية الطائفية، بل باستبدال النظام الاجتماعي برمته، وجعله حرا وعادلا في مستوياته المختلفة، عبر استهداف أصل التناقض الديني بين اليهودية والمسيحية، وتجاوزه بإلغاء الدين من علاقات الإنسان بالإنسان ثم بالدولة. فماركس يعتبر أنه “حالَما يرى كل من اليهودي والمسيحي دين الآخر مجرد مراحل تطور مختلفة للفكر الإنساني(..) فلن تكون العلاقة بينهما علاقة دينية وإنما علاقة علمية نقدية فحسْب، علاقة إنسانية. يكون العلم وحدتُها. أما التناقضات في العِلم فيحلُّها العلم نفسُه“().
- كان لهذا الجدل دور بارز في دفع التفكير الماركسي للقول، أولا، بأن الدولة المسيحية الكاملة هي الدولة التي تعرف نفسها كدولة باستقلال عن دين مواطنيها، لأنهم اكتسبوا حق المساواة في التدين، وفي كل مظاهر الانشغال الأناني والانكفاء على الذات؛ والقول ثانيا، بأن مرحلة التحرر السياسي كمرحلة وسيطة نحو التحرر الإنساني، تمر وجوبا عبر تحييد الدين ونقله نحو أن يكون “روح المجتمع المدني بدلا من روح الدولة كما كان سابقا“()؛ ثم القول ثالثا، بتحييد عامل المِلْكية la propriété (بالاشتراكية) لتقوية تماسك المجتمع بالمساواة بين الناس على أساس إنسانيتهم؛ ثم القول أخيرا، بحاجة المجتمع للحريات التي تصل ولا تفصل بين الناس، مادام التوغل في اتجاه فردانية الحقوق باسم “حقوق الإنسان” والمساواة القانونية فقط، لا يؤدي إلى تعزيز التحرر السياسي الذي جاءت به الثورة، وما دامت هذه الحرية حسب ماركس هي “حرية الذئب في خم الدجاج“()، الذئب المقصود هنا هو الطبقة البورجوازية طبعا.
- في مناخ هذا الجدل الفلسفي الألماني ولدت لأول مرة فكرة “الوطن القومي لليهود” ولادة غير دينية، أي إقامة وطن لليهود في فلسطين كحل ل”المسألة اليهودية” من منظور ماركسي. صاحب الفكرة لم يكن سوى الفيلسوف والأب الروحي للحركة الاشتراكية الألمانية، اليهودي “موشي هسMoses Hess” (1812-1875)، وأحد تلامذة ماركس، في كتابه “روما وأورشليم” الصادر عام 1862؛ بشكل أدق، Hess يمثل التوجه الاشتراكي في الحركة الصهيونية العالمية، ويعرف نفسه بأنه يهودي وثوري، اشتراكي وصهيوني juif et révolutionnaire, socialiste et sioniste. استلهم Hess فكرته من تأثره بتجربة “انبعاث إيطاليا” بفضل حركة النهضة القومية، واعتبرها نموذجا يمكن للمشروع الصهيوني النسج على منواله في تحقيق “الانبعاث القومي اليهودي” وإيجاد حل قومي ل”المسألة اليهودية“.
- كتاب Hess الذي تتقابل فيه رمزية انبعاث دولة قومية اليهود في القدس/أورشليم من وحي تجربة الانبعاث القومي للطَّليان في روما، كان موضوع إشادة من مؤسس المنظمة الصهيونية العالمية Theodor Herzl (1860-1904) في كتابه “دولة اليهود” الصادر عام 1896 معتبرا أن Hess قال فيه “ما يجب أن يقال“. تُبين هذه المعطيات علاقة أصل فكرة “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية” بتيار وازن في الفكر الاشتراكي العالمي بزعامة Hess. ولذلك فإن دراسة فكر Hess تقود بشكل منهجي إلى تقرير مُهم ومزدوج: (أولا) تقرير وجود علاقة لأصول الفكر الاشتراكي بأدبيات الحركة الصهيونية ورموزها، كما تقود (ثانيا) إلى تقرير وجود مشروع الوطن القومي لليهود بفلسطين في أدبيات أصول الفكر الاشتراكي. ورغم أن التداخل بين الصهيونية والاشتراكية لا يجد له سندا مباشرا في النظرية الماركسية، إلا أن اليساريين عموما ظلوا يتعاملون مع هذا التناقض بنوع من الغموض المُريب فكريا، وغير المعلل بمرجعية رؤيتهم الماركسية النظرية. في هذا الإطار من المهم تسجيل ملاحظة أن ماركس رد على كتاب Bauer (اليساري المسيحي البروتستانتي) بكتاب مضاد حول المسألة اليهودية عندما تعلق الأمر بمواجهة التناقض الذي يمثله دين الدولة الألمانية، لكنه لم يفعل الشيء ذاته تجاه كتاب Hess (اليساري اليهودي) المنظر لِحَلٍّ صهيوني للمسألة اليهودية من خلال أطروحة “الانبعاث القومي اليهودي” في فلسطين، رغم أنها تهدم جذريا أسس الفكر الماركسي، وتعتبر شاردة وانقلابية على فلسفة ومفاهيم الثورة التحررية الإنسانية الشاملة لإزالة التناقض الاقتصادي الطبقي، كما نظَّر له ماركس وإنجلز. لا تتعارض هذه الإشارة مع القول بأنَّ الماركسيين في البلدان العربية ظلوا يعتبرون الحركة الصهيونية امتدادا للإمبريالية الغربية، وأداة من أدواتها لمواجهة الفكرة الاشتراكية، لكن “الصهيونية الاشتراكية” أو “الصهيونية العمالية” المعترف بها ضمن “الأممية الاشتراكية” تاريخ وواقع لا يمكن نفيهما.
- تواصلت جهود المفكرين اليهود في عصر التنوير، ولعبت دورا كبير في صناعة توهُّجه الفكري في إطار انشغال مركزي ووجودي ملتزم، يتعلق ببحث غالبيتهم فكريا وفلسفيا وسياسيا عن حل تاريخي ل”المسألة اليهودية“. بواسطة سلطان المال ومن موقع الريادة المعرفية، يمكن القول بأن يهود عصر التنوير استطاعوا تحقيق انتقالات ثقافية تحسينية لصورة، وتَموقُع، ودور “اليهودي التائه” في المخيال العام الأوروبي. يتضح هذا الإنجاز في نقل “اليهودي التائه” من صورة الضحية التاريخية ل “العداء لليهود antijudaïsme” الذي أفرزه، إلى وضع “الإدماج l’intégration ” الذي حوله ماليا ومعرفيا إلى وضع ريادة. كما أنهم في مواجهة صعود القوميات الشوفينية المتفشية في أوروبا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والمسلحة بمقولة «اليهود هم مصيبتناles juifs sont notre malheur» التي صاغها المؤرخ القومي الألماني Heinrich von Treitschke (1834-1896)، استطاعوا نحت مفهوم “معاداة السامية antisémitisme”، لمنع عودة العداء لليهود تحت لافتة النزعات القومية والعرقية المتطرفة. ويرجع استعمال مصطلح “التعصب ضد السامية” لأول مرة للمثقف اليهودي النمساوي Moritz Stein Schneider (1816-1907) في العام 1860، في هجومه على المفكر الفرنسي Ernest Renan (1823-1892) الذي عرف بازدرائه للشعوب السامية، لكن مصطلح “معاداة السامية” كان من نَحْتِ الصحفي الألماني Wilhelm Marr(1891-1904)، وقد أطلقه حصريا على “العداء لليهود” عندما استعمله في سياق تهيئة مناخ تأسيس “رابطة معاداة السامية” في ألمانيا عام 1879.
الهوامش:
() كارل ماركس، حول المسألة اليهودية، ترجمة نائلة الصالحة، منشورات الجمل، الطبعة الأولى، كولونيا، ألمانيا، 2003، ص: 9.
(2) كارل ماركس، مرجع سابق، ص: 10.
(3) عزمي بشارة، المجتمع المدني: دراسة نقدية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012، ص: 189.
(4) Hassan Aourid, Regards sur l’Occident, Editions la Croisée des Chemins, Casablanca, 2017p: 36.