الدكتور الحبيب الشوباني
المقالة الحادية عشرة
المسألة اليهودية من خلال مواقف ثلة من مفكري التنوير الأوروبي:
مونتسكيو: Montesquieu
أحدث فكر الأنوار la pensée des Lumières – منذ أن أخرج شَطْأَهُ في القرن 17، واستغْلَظ في القرن 18، قبل أن يستوي على سوق الحداثة (وما بعد الحداثة) الخصيمتين للكهنوت والمؤلِّهتين للعقل في بقية القرون- قطيعة مع مسلمات وتقاليد الفكر المسيحي للقرون الوسطى. وقد قامت هذه القطيعة على دعامتين أساسيتين: (أولا) دعامة العَلْمنة la sécularisation التي اكتسحت أنظمة الحكم وهيمنت على المرجعيات الثقافية الرسمية الموجِّهة لقيم وأخلاق المجتمعات الأوروبية بعد الثورة الفرنسية، و (ثانيا) دعامة سلطان الفردانية l’individualisation في صناعة التشريعات المتعلقة بحقوق الإنسان والمواطن. وقد ساهم المفكرون اليهود في هذه التحولات بفعالية كبيرة، واستفاد مجتمعهم من ثمارها تحقيقا للتحرر والمساواة أمام القانون، على الرغم من أن التحول الثقافي المجتمعي ظل بطيئا وغير موثوق به في تَّمثُّل اليهودي لطبيعة المسيحي أو العكس. وقد دَلَّ على ذلك لاحقا، الاستبدال العنيف ل “العداء لليهودية l’antijudaïsme” ب “العداء لليهود l’antisémitisme” مع صعود قوة الحركات القومية والتطرف العرقي الآري في ألمانيا منتصف القرن 19، بحصاده النازي ومحارقه التي كان اليهود من بين ضحاياها.
ويعتبر Charles Louis de Secondat (المشهور بمونتسكيو Montesquieu (1689-1755)) من أبرز المفكرين الذين بصموا فكر التنوير الأوروبي بطابعه الخاص في نقد الديكتاتورية ونبذ التعصب. وقد ألهم فكرُه من صاغوا دستور الولايات المتحدة الأمريكية، وإعلان حقوق الإنسان، ودستور فرنسا بعد الثورة الفرنسية. كما أن أثره في دساتير الدول الليبرالية أشهر من أن يحصى. من بين مؤلفاته الكثيرة، كتاب “الرسائل الفارسية Lettres persanes” الذي خصصه لتوجيه النقد اللاذع للتقاليد والتعصب الديني السائدَين في المملكة الفرنسية، ولنظام الحكم المستبد. ناقلا هذه الانتقادات على ألسنة أجانب يبعثون بالرسائل إلى مواطنيهم في إيران، مثلما قام بحملة شديدة سَفَّه فيها رجال الدين ونفاقهم في كتابه “Considérations sur les causes de la grandeur des romains et de leur décadence ” الذي ترجمه للعربية المفكر المغربي الدكتور عبد الله العروي تحت عنوان “تأملات في تاريخ الرومان: أسباب النهوض والانحطاط” . أما كتابه “روح الشرائعDe l’esprit des lois ” فيصنف من حيث القيمة الاعتبارية في مصاف أمهات الكتب في علم السياسة، ككتاب أرسطو “السياسة/ Politique/ Πολιτικά”، أو “العقد الاجتماعيle contract social” لروسو.
وعلاقة ب”المسألة اليهودية”، فإن موقف مونتسكيو كان متحيزا بوضوح لمظلومية اليهود، ضمن رؤيته الأشمل لنقد ما عليه انحرافات المجتمعات المسيحية من تعصب ديني واستبداد سياسي. يقول في كتابه “الرسائل الفارسية”:
[ La religion juive est un vieux tronc qui a produit deux branches qui ont couvert toute la terre : je veux dire le mahométisme et le christianisme, ou plutôt c’est une mère qui a engendré deux filles, qui l’ont accablée de mille plaies. […] Mais, quelques mauvais traitements qu’elle en ait reçus, elle ne se laisse pas de se glorifier de les avoir mises au Monde / إن الديانة اليهودية جذع قديم أخرج فرعين غطيا الأرض كلها : أعني المحمدية (الإسلام) والمسيحية، أو بالأحرى هي أم أنجبت بنتين، فأثخنتاها بألف جرح. […] ولكن، مهما كانت المعاملة السيئة التي تلقتها منهما، فإنها لا تتوقف عن تمجيد نفسها لأنه هي من أنجبتهما] .
ليس من أغراض هذه المقالة التوقف عند تقييم الموقف – غير الموفّق وغير المنصف موضوعيا – لمونتيسكيو وهو يضع الإسلام والمسيحية في نفس درجة إثخان اليهودية بالجروح حسب وصفه، أو في اعتقاده الخاطئ بأن الإسلام فرع من اليهودية قياسا على المسيحية التي هي امتداد لبعث الأنبياء من بني إسرائيل، ولكن ما يعنينا أنه أدان المجتمعات المسيحية التي اضطهدت اليهود قرونا عديدة وأزمنة مديدة. ثم إنه يضيف في نفس المنحى:
[ On commence à se défaire parmi les Chrétiens de cet esprit d’intolérance qui les animait. On s’est mal trouvé, en Espagne de les avoir chassés. On s’est aperçu que le zèle pour les progrès de la religion est différent de l’attachement qu’on doit avoir pour elle, et que, pour l’aimer et l’observer, il n’est pas nécessaire de haïr et de persécuter ceux qui ne l’observent pas. [لقد بدأ المسيحيون بالتخلص من روح التعصب التي كانت تحركهم. لقد كان وضعنا سيئا في إسبانيا لأننا طردناهم. لقد تم إدراك أن الغيرة على تقدم الدين تختلف عن التعلق الذي يجب أن يكون لنا به، وأنه لكي يُحَبَّ ويُلتزَم به، ليس من الضروري أن يُكْرَه ويُضطهد أولئك الذين لا يلتزمون به].
وفي نص ثالث وأخير، من كتاب “روح القوانين” بعنوان “احتجاج متواضع جدًا لمحققي إسبانيا والبرتغال” يقول مونتسكيو مبشرا بأفضال الفلسفة على الدين الكهنوتي المتزمت:
[Vous vivez dans un siècle où la lumière naturelle est plus vive qu’elle n’a jamais été, où la philosophie a éclairé les esprits, où la morale de votre évangile a été plus connue[…] Il faut que nous vous avertissions d’une chose ; c’est que, si quelqu’un dans la postérité ose jamais dire que, dans le siècle où nous vivons, les peuples d’Europe étaient policés, on vous citera pour vous prouver qu’ils étaient barbares ; et l’idée que l’on aura de vous sera telle, qu’elle flétrira votre siècle, et portera la haine sur tous vos contemporains /أنتم تعيشون في قرن حيث النور الطبيعي أكثر سطوعًا من أي وقت مضى، فيه أنارت الفلسفة العقول، وفيه أصبحت أخلاق إنجيلكم معروفة بشكل أفضل […] يجب أن نحذركم من شيء واحد؛ هو أنه إذا تجرأ أي شخص في الأجيال القادمة على القول بأن شعوب أوروبا كانوا متحضرين في القرن الذي نعيش فيه، فسيتم الاستشهاد بكم لإثبات أنهم كانوا برابرة؛ وأن الفكرة التي ستتكون عنكم، ستشوه قَرْنَكُم، وستجلب الكراهية لجميع معاصريكم].
(يتبع في المقالة الثانية عشرة)