الدكتور الحبيب الشوباني
المقالة السادسة عشرة
في تاريخ أصول »الحل الصهيوني « ل «المسألة اليهودية « (4) :
الثالوث الفكري المؤسس للمشروع السياسي الصهيوني:
مُصطَلح Birnbaum – كُرّاسة Pinsker -كِتاب Herzl
- بعدمصطلحNathan Birnbaum وكُرّاسة Pinsker Léon،وأثرهما الكبير في وضع أسس المشروع السياسي الصهيوني اصطلاحا ورؤية تطبيقية، تكون “المسألة اليهودية” قد وصلت في الربع الأخير من القرن 19 إلى محطة حاسمة من تاريخها مع تيودور هرتزل Theodor Herzl وكتابه “ دولة اليهود: محاولة لحل عصري للمسألة اليهوديةEtat des juifs : Essai pour une solution moderne de la question juive ” المتشابه حد التطابق في كثير من تفاصيله التقنية مع “كراسة التحرر الذاتي” ل Pinsker. غير أن القيمة المضافة النوعية لهرتزل تمثلت في إشرافه الشخصي على تنفيذ حلمه من خلال مأسسة إجرائية فعالة وبحماسة منقطعة النظير. لقد نقل هرتزل “المسألة اليهودية” من حالة الجدل الديني والفكري والمواقف السياسية الشفوية، إلى حالة الفعل المنظّم لتجميع اليهود في وطن قومي بناء على اقتناعه باستحالة تطبيع اندماجهم في المجتمعات المسيحية في ظل تشبثهم بوضعهم ووجودهم “كجماعة عرقية ودينية”، وفي ظل تشبت المجتمعات المسيحية بالنظر إليهم كجنس بشري غير قابل للاندماج، ما دام وجودهم المنظّم ينطوي دائما على مخاطر اقتصادية وسياسية وأخلاقية، تؤطرها نظرة دينية استعلائية، وانغلاق أناني مصلحي عرقي لا يفارق هذا الوجود، يفسر ما تعرض له اليهود تاريخيا من اضطهاد وعزل ومنبوذية وكراهية.
- استمد هرتزل حماسته الاستثنائية من كونه جمع في هندسته الفكرية بين شخصيتين: (أولا) شخصية الكاتب المسرحي dramaturge صاحب قوة الفكرة المسرحية الحالمة بلا حدود أو عوائق؛ و(ثانيا) شخصية المدبر العقلاني شديد الملاحظة لثمرات قوانين الفيزياء ومفعولها السحري في تغيير واقع البشرية بعد الثورة الصناعية، والتي لم يسبق له أن درسها أو تخصص فيها. ككاتب مسرحي كان هرتزل ينتج وينفذ على خشبة مسارح فيينا مسرحية كل سنة على الأقل، طيلة الفترة الممتدة من 1880 إلى 1894، وهي السنة التي انتقل فيها إلى باريس مراسلا صحفيا. لكن النص المسرحي الذي غير مجرى تفكيره بشكل جذري، هو آخر نص كتبه تحت عنوان “الﯖيتو الجديد le nouveau Ghetto” في خريف سنة1894؛ لغة النص ومشاهده جعلت منه عملية درامية نفسية شديدة التوتر، أفرغ بها هرتزل في قالب فني ومسرحي صاخب سيرته الذاتية وما يصطرع بداخله من انشغال متناقض وعنيف تجاه مستقبل اليهود المنبوذين في أوروبا. فالمحامي “جاكوب صموئيل” بطل المسرحية، الابن الوحيد لأُمٍّ استحواذية possessive، المفتون بالثقافة الغربية، المتلهف للاندماج فيها، الكاره لليهود الأثرياء وللحاخامات، والمتزوج زواجا فاشلا من امرأة لا يستطيع فهم مزاجها لأنها من طبقة أغنى منه…إلخ؛ كل ذلك رسم به هرتزل لوحة نفسية دقيقة الوصف لشخصية ومعاناته. من المشاهد التي نقلت بطل المسرحية من حالة المحامي اليهودي الحالم بالاندماج، إلى حالة هرتزل المنظر ل”حل عصري للمسألة اليهودية“، مشهد تعرُّض بطل المسرحية للخيانة من قبل أصدقائه غير اليهود، بعد انضمام صديقه الحميم “فرانز” إلى تنظيم سياسي “معادٍ للسامية” وتَنكُّرِه للصداقة القوية التي تربطهما. وفي مشهد آخر، يدافع “صموئيل” بطل المسرحية بكل قوته وباسم الشرف عن الأرستقراطي الذي تحداه في مبارزة وقتله. استدعى هرتزل من خلال هذا المشهد التراجيدي ممارسة شديدة الإيذاء لليهود كان الارستقراطيون الفرنسيون المعادون لهم يستمتعون بها الساحات العمومية؛ فقد كانوا “يدعونهم للمبارزة الفردية Ils les provoquent en duel” وسط حشود من الغوغاء المتفرجين، وكان اليهود البؤساء يُهزَمون شر هزيمة أو يُقتلون بضربات قاضية في هذه المبارزات، بسبب معنوياتهم المتهالكة كجنس منبوذ، ثم بسبب خبرتهم الضعيفة بهذا النوع من فنون القتال. لقد جسد هرتزل بموت بطل المسرحية موت شخصيته الحالمة بالاندماج، وأعلن ميلاد شخصية جديدة ستعمل على إخراج “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية” للوجود، كحل عصري غير مسبوق في هندسته وطبيعته العملية وقابليته للتحقق.
- قبل استعراض علاقة هرتزل بقوانين الفيزياء التي ألهمته عقلانيا في رحلة البحث عن الأسس والتدابير الإجرائية لتنفيذه مشروع الحل الصهيوني الجذري والنهائي للمسألة اليهودية كما صاغه وخطَّط له، من المفيد جدا فهم بعض جوانب شخصية هرتزل بالاطلاع على معطيات من حياته الخاصة، وكذا على السمات العامة للسياق التاريخي الذي عاش فيه الأب الروحي ومؤسس التنظيمات الصهيونية العالمية المعاصرة، والذي في مناخه انقدحت داخل خلايا دماغه شرارة فكرة “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية“. فقد ولد الطفل اليهودي بنيامين زئيف هرتزل Binyamin Ze’ev Hertsel سنة 1860بمدينة بودابست ( عاصمة المملكة النمساوية-المجرية سابقا، وهنغاريا حاليا). بعد ختانه اشتهر باسمه الجرماني (غير العبري) تيودور هرتزل Theodore Herzl. والده يعقوب Yakov كان رجلا متدينا، لكن جده لأبيه عاش يهوديا أرثوذكسيا وعمِل قَيِّما دينيا (حَزَّان) في كنيس له، وكان مقربا من الحاخامYehuda Hay Alkalay (1798-1878)، أحد مؤسسي منظمة “عشاق صهيون” المُهْتمَّة بالهجرة الدينية لليهود إلى أرض فلسطين خلال القرن التاسع عشر. كانت حياة هرتزل من الناحية الانسانية البحتة مأساوية على كافة الأصعدة. فقد توفي في 3 يوليو 1904 في فيينا بسبب التهاب رئوي عمَّق أزمة ضعف وظيفة عضلة قلبه، عن عمر لم يتجاوز 44 سنة؛ ثم لحقت به زوجته Julie Naschauer عام 1907 عن عمر لم يتعد 39 عامًا، مُخلِّفين وراءهم ثلاثة أيتام: البنت الصغرى Margareth Gertrude (14 سنة) الملقبة ب”ترود Trude“، والابن الأوسط Hans(16 سنة)، والبنت البكر Pauline (17 سنة).
- ماتت ابنة هرتزل الصغرى Trude رفقة زوجها في محتشدات الاعتقال النازي سنة 1943، ولم يعثر لهما على أثر بعد ذلك؛ أما ولدهما “ستيفان تيودور نيومان Stephan Theodor Neumann” – الحفيد الوحيد لهرتزل المعيّن ملحقا ثقافيا بالسفارة البريطانية في واشنطن – فقد انتحر ملقيا بنفسه من عَلى جسر في العاصمة الأمريكية سنة 1946، وكان عمره 28 عاما. وأما ابنته بولين Pauline فقد عاشت حالة انحراف واضطراب نفسي وأخلاقي جعل منها nymphomane une (مصابة بهوس الشبق/ الجنسي) وأيضاune morphinomane (مُدمنة علاجيا على مخدر المورفين)، وتوفيت في 8 سبتمبر 1930 في مدينة بوردو بفرنسا. عندما سمع أخوها Hans – الذي تحول من اليهودية إلى المسيحية – بخبر وفاتها بعد أسبوع من دفنها، هرع ليزور قبرها لكنه أصيب بنوبة حزن شديدة وشعور بالذنب، فانتحر في أحد فنادق باريس يوم 15 سبتمبر 1930برصاصة أطلقها على نفسه. تنفيذا لوصية هرتزل بدفنه هو وأفراد أسرته المقرَّبين في “جبل الزيتون” بالقدس، بعد قيام “دولة اليهود” واحتلال فلسطين، نقلت حكومات “إسرائيل” المتعاقبة تباعا رفات “آل هرتزل” لدفنهم في مقبرة خاصة في “جبل هرتزل” (بعد تهويد اسمه العربي: جبل الزيتون)؛ ففي سنة تم نقل رفات والده Yakov ووالدته Jeannette وأخته Pauline من النمسا، وتم وفي سنة 2006 تم نقل رفاة ابنه Hans وابنته Pauline من فرنسا، فيما تم نقل رفاة الحفيد المنتحر من واشنطن سنة 2007.
- علميا ومهنيا، أنهى Herzl دراسته في جامعة فيينا بحصوله على شهادة الدكتوراه في القانون الروماني. تشرَّب الثقافة الألمانية ونشأ في عصرها الرومانسي الذهبي الذي يموج بالأفكار القومية كناشط سياسي، ومارس المحاماة والصحافة والكتابة المسرحية، وكان من الأنصار المتشددين لفكرة اندماج اليهود في مجتمعاتهم، خاصة بعد مكتسبات الثورة الفرنسية التي رفعت شعار الحرية والمساواة والأخوة. بسبب حماسته الشديدة لفكرة تحرر اليهود واندماجهم في مجتمعات أوروبية تعيش حالة انقلاب جذري نتيجة فكر الأنوار وثوراته وتشريعاته، لم يُبْدِ Herzl اهتماما يُذكر بخطابات ووعود السياسيين، كالبريطاني Cromwell أو الفرنسي Bonaparte، وغيرهم من الساسة الإنجليز والأمريكان الذين جمعوا بين الرغبة العقائدية في تخليص مجتمعاتهم من اليهود، وبين توظيفهم كجماعة دينية لتنشيط الاقتصاد أو كرأس حربة في السياسات الاستعمارية الموجهة ضد الخلافة الإسلامية العثمانية في المنطقة العربية بشكل عام، وفي فلسطين بشكل خاص. ظل Herzl على مسافة فكرية كبيرة من الدعوات المسيحية البروتستانتية التي أطلقها “مارتن لوثر” عن اليهود وعلاقتهم الدينية بأرض الميعاد؛ كما ظل على نفس المسافة من سلطة الحاخامات ومن التدين اليهودي بشكل عام. ولم يكن يؤمن بفكرة “أرض الميعاد” أو حل “المسألة اليهودية ” بإيجاد “وطن قومي لليهود على أرض فلسطين”، كما نظَّر لذلك تلميذ ماركس، الفيلسوف “موشي هس Moses Hess” لأول مرة في كتابه “روما وأورشليم” الصادر سنة 1862م؛ لكن Herzl عاد وأشاد بكتاب Hess، بعد حصول انقلاب جذري غيَّر وعيه لما يجب أن يكون عليه الحل النهائي ل”المسألة اليهودية”.
- من بين الأسباب التي أدت لانقلاب وعي Herzl في فرنسا، ما عاشه كمراسل لصحيفة “فيينا الحرة الجديدة” في باريس – بين عامي 1891م و1895م – من أحداث مرتبطة بالمناخ المشحون بين تيار معاداة اليهود وتيار الانتصار لقيم الثورة الفرنسية، والذي عرفته فرنسا والغرب بشكل عام على خلفية محاكمة الضابط اليهودي Dreyfus في فرنسا (دجنبر 1894م). لم يكتف Herzl بنقل الحدث كصحفي فقط، بل عاشه فكريا كيهودي رأى فيه انهيار رهانه الطوباوي بشأن قضاء فكر وتشريعات الثورة الفرنسية على مشاعر معاداة اليهود المتأصلة لدى الأوروبيين. حررت “قضية دريفوسl’affaire Dreyfus” الصحفي Herzl من أوهامه عن سراب اندماج اليهود كجماعة عرقية ودينية في المجتمعات الأوروبية، فصاغ جوابه الجذري لحل المسألة اليهودية ووضع حدٍّ لمعاناة اليهود في المجتمعات المسيحية، وحرره في كتابه الصغير الشهير في صيف 1895: “دولة اليهود: محاولة لحل عصري للمسألة اليهودية“، ونشره سنة 1896م بعدد صفحات لا يتجاوز 70 صفحة .
(يتبع في المقالة 17)