عزيزة الزعلي.
في أمسية احتفاء وعرفان بالكاتب الراحل والمفكر وعميد الأدب “عباس الجراري”، استحضرت الشهادات مسارا بصم فيه تاريخا أكاديميا متميزا، ومسيرة جمع فيها بين كونه أستاذا جامعيا و مؤطرا وباحثا، فضلا عن مساهمته السياسية سواء في وزارة الخارجية (خلال الستينات) أو في الديوان الملكي.
تحت عنوان “في ذاكرتنا”، وبحضور زوجة الراحل حميدة الصايغ، وثلة من الشخصيات التي عايشته، كشفت الندوة في اليوم الثاني من فعاليات المعرض الدولي للنشر والكتاب في دورته الـ 29، عن جهد الراحل في تطوير الإطار النظري لدراسة الأدب المغربي، وعناية جامعة بين الأدب “المثقف” والأدب الشعبي، وكذلك دوره في إغناء المكتبات المغربية والعربية بمؤلفات في مجالات مختلفة.
بدأت حميدة الصائغ، زوجة المفكر والأكاديمي الراحل، التي عرفته أواخر سنة 1956، في مكتب “لجنة المغرب العربي” في القاهرة، شهادتها عن مسار الجراري بأبيات شعرية قالت فيها : لم يبق شيء من الدنيا أُسَرُّ به/ إلاّ الدفاترُ فيها الشعرُ والسمرُ
مات الذين لهم فضل ومكرمةٌ/ وفي الدفاتر من أخبارهمْ أثرُ
واستحضرت أرملة الراحل، من ثمرات مجهوداته، أن “رفع التعتيم عن الزجل بالمغرب، بنشره أول مؤلف فيه يحمل عنوان القصيدة الذي كان أطروحة دكتوراه، ثم استمر عملنا طوال 63 عاما لا نبغي سوى كشف الحجاب عن تراثنا الغزير والمتنوع، المعرّب والملحون، الأمازيغي والحساني، بدون تفريق أو استبعاد لجانب فكري أو أدبي أو ديني، مع انفتاح كبير تتحقق به الأصالة والمعاصرة.”
وتحدَّثَت عن السنين والأعوام التي توالت وهما معا، مؤكدة أنها “كانت دافعا للتغلب على سائر الصعاب، أيا كان مصدرها، لتحقيق المشروع الفكري الذي ابتغاه، وسفّهه البعض وحاربوه بسببه”. وذكرت بموقف الملك الحسن الثاني من المشروع الجراري الذي لقي كل ثناء ومواكبة منه، وكذلك استمر الملك محمد السادس.
وتحدثت الصائغ، عن محطات تعيين زوجها الراحل في المدرسة المولوية، و الديوان الملكي، واختياره الخطابة في مسجد لالة سكينة بالرباط، واستدعائه لتمثيل المغرب في الحوار بين الأديان الثلاثة، وكذا اختيارهِ ليكون مستشارا ملكيا، مع ما استلزم ذلك من غيابه فترات طويلة عن البيت، وتحمّلها وحيدة مسؤوليته، بمساعدة من العائلة.
كما تذكّرت رفيق دربها بوصفه موسوعيا قل نظيره، محبا لوطنه، يلقى الناس بوجه صبوح طلق وابتسامة دائمة، ذا حنو بالغ على إخوانه وطلبته، وإنسانا متسامحا في علاقاته، وبارا بوالديه، ومستندا على أسرته الصغيرة، لا يزحزحه عن حبها والتمسك بها أي عارض، وبوصفه مواطنا مخلصا لملوكه.
مصطفى الجوهري، محافظ “النادي الجرّاري”، الذي أشرف عليه الفقيد منذ رحيل والده العالم عبد الله الجراري، شهد على مسار عميد “الدراسات الأدبية المغربية” ورائد “دراسات التراث الشعبي المغربي”، بالقول ” هو الباحث في عطاءاته الفكرية والأدبية والثقافية”.
وتحدث عن جهود الجيراري في خدمة الثقافة المغربية، بدءا بالجامعة التي انخرط في إصلاحها وتطويرها وتدبير سلسلة التكوين بها، وتأهيلها للتحديات الحديثة و الحداثية وخاصة في منظومة البحث العلمي والثقافي.
وقال إن الأطروحات الجامعية التي أشرف عليها، أفرزت خصوصيات إبداعية ذاتية ومعرفية وموضوعاته، وأظهرت وجها جديدا في البحث العلمي، مكنته من ترسيخ وإدماج الأدب المغربي والنهوض بموروثه الثقافي، وجددت المقاربة العلمية والفنية لإحياء المنسي منه والمهمل من تراث الأدب المغربي.
وأضاف أن الراحل، التفت أيضا إلى التراث والثقافة الشعبية بجميع ألوانها وفنونها، بتوجيه من والده العلامة عبد الله الجراري، وعمل على النهوض بشعر الملحون في رسائل ثقافية متباينة بالنادي الجراري أو أكاديمية المملكة المغربية أو في الجامعة أو المهرجانات وغيرها.
وأكد الجوهري، أن الجيراري جمع شتات هذا الأدب ونشره في 11 ديوانا، وانطلاقا من عمله في الأكاديمية نهض، بدور بارز ومتميز في اعتراف اليونسكو بالملحون تراثا عالميا، قبل وفاته بشهر واحد.
وكان عباس الجيراري، قد أنجز أطروحة رائدة عن شعر الملحون في المغرب عام 1969، كانت مؤسسة لدراسة التراث الشعبي في الجامعة المغربية، والتي عززها بإصدارات متوالية شملت مكونات هذا التراث، وتوج هذا المسار بالإشراف على مشروع “موسوعة الملحون” بين 2007-2018.
وأضاف الجوهري، أن الراحل كان له فضل السبق أيضا في التعريف بالثقافة الأمازيغية، وثقافة الصحراء والشعر الحساني، وكان كلاهما آنذاك أدبا بكرا، شجع الطلبة على البحث فيه رغم إكراهات الإقبال آنذاك.
وأشار الجوهري، إلى جانب آخر يتعلق بعطاء الجراري في قضايا الثقافة المغربية، وخاصة فيما يتعلق بالتنمية وتحصيل الهوية انطلاقا من العوامل والروابط الأساسية المدعمة وفي مقدمتها اللغة العربية.
من جانبه، قال رئيس كرسي تحالف الحضارات وعضو مجلس إدارة الجامعة الأورومتوسطية، عبدالحق عزوزي، إن ميلاد الراحل “كان عربيا أصيلا، ولسانه يعلى ولا يعلى عليه، وطريقه هو شمس العرب الحقيقية”.
و ذكر، أنه كان من القلائل المبعوثين على رأس كل قرن للتجديد، وهو عالم شرف ويشرف المغرب والوطن العربي والإسلامي، وقال “تتلمذ عنه المئات، وتخرج على يديه الآلاف، وبقي رجلا متواضعا، عالما فذا قل نظيره”.
وأضاف عزوزي في شهادته بالقول، “عرفت منه من الخصال العظمى ما لا يوجد عند غيره (…)، هو من شجرة طيبة جنت منه البشرية أزيد من خمسين مؤلفا، وآلاف المقالات، والأطاريح، والمشاركات المتعددة، وتقلد مناصب سامية متعددة، وهو عالم مجاهد قضى حياته ناسكا في منبر العلم والعطاء”.
وقال، إن مسيرة الجراري، تتلخص في الصبر، والثقة بالله، ونشأته في عائلة علم ودين ووطنية كان لها أكبر أثر في حياته، يضاف إليها حياته الصحية التي جعلته يصرف عن كل ما يتعارض مع سلامتها، أو ما يبعدها عن اتباع الهدى وتحقيق المثال. وختم شهادته، بأن الراحل أوصى قبل وفاته باستكمال مشروع بحث كان قد بدأه.
من جهته، أعرب الأستاذ بكلية الآداب بجامعة عين الشق بالدار البيضاء، فيصل الشرايبي، عن اعتزازه بكونه تلميذ الراحل الجراري، واصفه إياه: “كان عطاء يمشي على رجليه، عطاء في الأخلاق وفي الموسوعية، وعطاء في الحذب والعطف على الطلبة، كان بابه مفتوحا دائما، وهو واحد من القمم الأطلسية التي يجب أن نمجدها دائما، لأنه أعطى للأدب المغربي عربيه وشعبيه المكانة اللازمة.”
وأضاف بالقول “البدرة التي بدرها في الجامعة المغربية تتعلق بالتراث الشعبي جعلته يتعرض لمضايقات كثيرة بسبب اهتمامه بالأدب الشعبي، ما دفعه لتسجيل دكتوراه الدولة في القاهرة، وهي رسالة كانت فاتحة خير على الأدب المغربي، خاصة في شقه الأمازيغي، لأن الأمازيغية كانت تعاني من الاحتقار والتبخيس، كما طوق الراحل جيد المغرب بعقد من الجمال الأدبي والجمال العلمي. “
وقال إنه “كان واسطة العقد الأدب الشعبي، فبحث عن الخصوصية المغربية، وذلك حين وجدت الثقافة المغربية نفسها بين “التبعية للمشرق والتبعية للغرب”، مضيفا بأن الراحل استطاع “إخراج المارد المغربي من قمقمه”، مع سعيه إلى “إنقاذ الدراسات المغربية من العشوائية” بكتابته في المنهج الذي يصونها.
أما الباحث إبراهيم المزدالي، فسجل من جهته أن عباس الجراري “استطاع أن يضع للأدب المغربي مكانة لائقة في مسار كبير وطويل للثقافة المغربية (…) وقيمة ومكانة في ثقافة البلاد وما يصلها بالثقافة العربية بصفة عامة والثقافة العالمية بصفة أعم”.
ووقف الباحث، عند ما وصفها بالصعوبات والإكراهات، التي واجهت مسيرة الراحل الذي ينتمي لجيل من المثقفين المخضرمين ممن عاصروا فترتي الحماية والاستقلال. وأبرز أن من بينها إكراهات إثبات القيمة المهمة والفاعلة للأدب المغربي في الجامعة المغربية، ووضع مكانة لأدب الملحون داخل الجامعة المغربية.