الدكتور الحبيب الشوباني
المقالة السادسة
تحولات أساسية في “المسألة اليهودية” إبان عصر التنوير: السياسة والحكم
- بفضل فكر التنوير الذي لعب فيه المفكرون اليهود دورا بارزا – في علاقة وطيدة بانشغالهم الديني والوجودي بحل “المسألة اليهودية” – تطورت القطيعة مع الوضع الذي وصفه الفيلسوف اليهودي الألماني Franz Rosenzweig (1886-1929) ب“عيش اليهود خارج التاريخ” نحو وضع جديد عنوانه “التحرر اليهودي L’émancipation juive”، منح الحضور اليهودي في مجال السياسة والحكم – باستثمار وتوظيف المال والمعرفة – تناميا متسارعا للنفوذ المؤثر والموجِّه لسياسات الدول وصناعة قراراتها الاستراتيجية، على الرغم من أن ذلك لم يكن يسير بنفس السرعة في مختلف بلدان أوروبا.
- قبل هذه التحولات كان اليهودي في أوروبا يُعرَّف بدينه، أي كونه يهوديا أولا وأخيرا. لكن مع التحرير صار لليهودي صلةُ قرابةٍ قانونية بالوطن، تُعرِّفه ك “يهودي فرنسي” أو “يهودي روسي” أو “يهودي بريطاني“.. إلخ؛ لاحقا، أصبحت صيغة “فرنسي ذو ديانة يهودية français de confession juive” -مثلا-أكثر تحضرا وتعبيرا عن المساواة والمواطنة الكاملة لأنها تُقدِّم الوطن وتُؤخِّر الدين. اللافت للانتباه، أن “العناد اليهودي” كما يسميه Brono Bauer ، جعل عصر التنوير يطوي صفحة القرون الوسطى بمآلين متعارضين: مآل تحرر اليهود من الاضطهاد دون تفريط غالبيتهم في دينهم، ومآل تحرر غالبية المسيحيين من عدائهم لليهود ومن دينهم أيضا. بعبارة أخرى: لم يشكل التنوير إصلاحا لأعطاب المسيحية وتهذيبا لانحرافاتها، بل قام بشِبْهِ إبادةٍ ثقافية لها؛ في المقابل، شكل التنوير عصرَ ترسيخ لسيادة اليهودية المستقوية بمكتسباته على المسيحية المهزومة في عقر دارها.
- أطلقت الثورة الفرنسية عام 1789 شرارة مسلسل تحرير اليهود الذين كان عددهم حوالي 40 ألف، من أصل 26 مليون فرنسي. فقد أصدرت الجمعية الوطنية الفرنسية عام 1791، قانون تحرير اليهود ومنحِهم حقوقاً مماثلة لباقي الفرنسيين، ألغيت بموجبه كل التشريعات المقيدة لحرياتهم ونشاطاتهم. بعد العام 1791تنامى الحضور اليهودي في مختلف المؤسسات السياسية، ووصلت شخصيات يهودية إلى مواقع صناعة القرار في فرنسا قبل أي دولة أوروبية أخرى. فقد تقلد اليهودي Isaac Moise Crémieux (1796-1880)أول منصب وزاري، همَّ وزارة العدل سنة 1848،وكان من أهم إنجازاته إلغاء عقوبة الاعدام في القضايا السياسية، وإصدار قانون يمنح اليهود الجزائريين الجنسية الفرنسية لتحويلهم إلى قوة ديمغرافية واقتصادية تدعم سياسة الاستيطان وتخدم مصالح الاستعمار الفرنسي في الجزائر.
- . موجة التحرير بعد فرنسا تواصلت وحلَّت ببلجيكا سنة 1830، ثم هولندا سنة 1834، فمملكة هانوفر سنة 1842، فبريطانيا العظمى سنة 1858، فإيطاليا سنة 1861، فالنمسا-المجر سنة 1867، فألمانيا سنة 1871، فبلغاريا وصربيا سنة 1878؛ أما في القرن العشرين، فقد استكملوا تحررهم في روسيا سنة 1917 عقب نجاح الثورة البلشفية /الشيوعية التي شاركوا فيها بقوة من موقع القيادة (قائد الجيش الأحمر Léon Trotski نموذجا)، ووسط زخم القواعد (“بن غوريون” رئيس وزراء الاحتلال عام 1948 ومؤسس حزب “عمال أرض إسرائيل” في فلسطين، كان جنديا في الثورة البلشفية)، وأخيرا وصل قطار التحرير إلى رومانيا سنة 1923.
- من المهم العودة إلى الحالة الفرنسية للتوقف عند بعض المعالم التاريخية الضرورية لفهم العلاقة العضوية بين الحضور اليهودي المبكر في دواليب الحكم والسياسة في فرنسا، وبين الحماسة الكبيرة لانخراطها في جهود “تنفيذ مشاريع الحل الصهيوني للمسألة اليهودية”. (سياسيا) أقام الفرنسيون قنصليتهم في فلسطين منذ سنة 1843، وقد وظفوا “مَنْحَ الحماية القنصلية” للمسيحيين الكاثوليك، وحتى للمسلمين المتهربين من القوانين العثمانية، لاعتبارات اقتصادية تروم الاستفادة من الامتيازات الأجنبية (ضرائب، رسوم جمركية..)، حيث تمكنت الجهود القنصلية من تشكيل جمهور مصالح محلي واسع بمثابة “محمية فرنسية” في فلسطين، سرعان ما تحولت إلى أداة نفوذ قوية تم توظيفها لتثبيت نفوذها القنصلي على اليهود، منذ قيام يهود فرنسيين في سنة 1860 بتشكيل ‘التحالف الإسرائيلي العالمي. (اقتصاديا)، كانت فرنسا المستثمر الأجنبي الأول في بلاد الشام، وتملك شركاتها خط سكة الحديد يافا -القدس، وخط دمشق-حماة، وتدير خط سكة حديد الحجاز المملوك للعثمانيين. وهي استثمارات كان اليهود في مقاليد إدارتها بحكم نفوذهم المالي.
- عندما انطلقت حركة الهجرة اليهودية المنظّمة نحو فلسطين، استعانت الحركة الصهيونية بالبارون الفرنسي Edmond James de Rothschild (1845-1934)، “أبو المستوطنات الصهيونية père des colonies sionistes“، والذي مول تأسيس عدد من المستعمرات الزراعية بكتائب من اليهود الفرنسيين ذوي الخبرات في مجال الزراعة المتوسطية، جلهم مستقدمون من الجزائر المستعمَرة. وقد شكّل الاستيطان الذي موله Rothschild سلاحا فعالا للدبلوماسية الفرنسية بهدف تقوية الوجود اليهودي-الصهيوني في فلسطين، وتعزيز النفوذ الفرنسي في المنطقة. كما أن اللغة الفرنسية كانت ضمن البرامج التعليمية الموجهة لأغلب المستوطنات رغم أن أغلب المستوطنين من أوروبا الشرقية.
- عسكريا، كان نابليون صاحب أول تصور عملي لإنشاء دولة يهودية تابعة للإمبراطورية الفرنسية في فلسطين، ضمن خطته لتأمين مساعدة اليهود له في حملته العسكرية على الشرق. وقد طلب من اليهود الفرنسيين عقد أول مجمع لحكمائهم من أجل اتخاذ قرار إنشاء دولة يهودية تابعة للنفوذ الفرنسي، تعمل من جهة على تحجيم الحضور البريطاني في المنطقة، وتكون من جهة ثانية قاعدة للسيطرة على طرق التجارة بين الشرق والغرب .إلا أن فشل نابليون في حملته على بلاد الشام حكم على مشروعه بالتلاشي. أما عن الدعم العلمي والعسكري الفرنسي المعاصر للحل الصهيوني ل”المسألة اليهودية”، فتكفي الإشارة إلى أن “المفاعل النووي ديمونةréacteur nucléaire de Dimona ” فخر قوة الردع النووية الصهيونية، مفاعل فرنسي 100%، وقد شُرع في بنائه من طرف فرنسا في إطار اتفاقية سرية مع دولة اليهود سنة 1956، وتكتم الفرنسيون على ذلك مدعين أنه “معمل للنسيج“، لتجنب خضوعه لمراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية AIEA.
- تاريخيا لعبت قضية الضابط اليهودي Alfred Dreyfus (1859-1935) في نهاية عام 1894 دورا كبيرا في تمكين المجتمع اليهودي في فرنسا من تحقيق مكسبين كبيرين: (أولا) الضغط على الدولة الفرنسية لتحقيق مزيد من حماية اليهود وتحصينهم بالقانون والعدالة الناجزة من الوقوع تحت نير الاضطهاد الذي وضعت له الثورة الفرنسية حدا؛ (ثانيا)، تحويل قضية الضابط Dreyfus إلى استثمار سياسي وإعلامي دائم لمواجهة كل من يخالف المواقف السياسية لليهود تحت لافتة “معاداة السامية”. ويعود أصل القضية إلى اتهام النقيب اليهودي الديانة Dreyfus بالتخابر مع السفارة الألمانية بباريس وتمكينها من ملفات سرية. تسبب الاتهام ثم الإدانة بالحكم عليه بالأشغال الشاقة ونفيه إلى “جزيرة الشيطانl’île du diable” في المحيط الأطلسي.
- تضافرت عوامل متعددة كشفت أن المحاكمة لم تكن عادلة وأن Dreyfus أدين بسبب يهوديته. ففي عام 1896 تمكن جهاز مكافحة التجسس من إثبات أن الجاني الحقيق رائد في الجيش الفرنسي، كما أن الكاتب الشهير Emile Zola لعب دورا حاسما في دعم Dreyfus عندما نشر مقالا بعنوان “أنا أتهم J’accuse” فى 3 فبراير عام 1898م، اتهم فيه وزارة الحرب والمحكمة العسكرية فى باريس، بتضليل الرأي العام وإخفاء الحقائق وانتهاك حقوق المتهم Dreyfus. شكل الاتهام فضيحة وضغطا عالميا على الحكومة تجاوبت معه صحف واسعة الانتشار فى إنجلترا وألمانيا، هولندا، والولايات المتحدة الأمريكية. وفي عام 1899 أعيد Dreyfus إلى فرنسا لمحاكمة جديدة وحكم عليه بالسجن لمدة 10 سنوات، وسط انقسام مجتمعي ونخبوي حاد، فتم العفو عنه وأطلق سراحه لتتم تبرئته سنة 1906وإعادته برتبة رائد إلى الجيش الفرنسي، منهيا خدمته برتبة مقدم.
(يتبع في المقالة السابعة)