الدكتور الحبيب الشوباني
المقالة السابعة
تحولات أساسية في “المسألة اليهودية” : إرهاصات ميلاد الحل القومي مع الحركة الصهيونية
1. لم يكن تحرير اليهود في القرن 18، كثمرة من ثمار عصر التنوير الذي زرعت بذوره في القرن 17، موضوع إجماع بين يهود أوروبا، بل أنتج مواقف متباينة حدَّ التناقض؛ فالتوجه الارثودوكسي/ المحافظ اعتبر التحرير عملية “استيعاب assimilation” ستنتهي بتخلي اليهود “المستوعَبين assimilés” عن دينهم وثقافتهم لصالح ثقافة المجتمع “المستوعِب assimilateur”؛ أي أن التحرير في مآلاته يشكل عملية إبادة ناعمة ستقود لتجريدهم من سر صمودهم لعشرات القرون. مثّلت هذا التوجه المجامع الأرثودوكسية الدينية، بحاخاماتها وأحبارها، والذين لم يمنعهم تشددهم من الجمع بين استثمار منافع الحريات والحقوق الجديدة لتوسيع النفوذ المالي والتجاري لليهود؛ وأيضا تحقيق مزيد من المكاسب للحياة اليهودية التقليدية في أشكالها وخصوصياتها الثقافية (إظهار الطقوس والملابس المميِّزة، إحداث مؤسسات التعليم الخاصة، عرض طعام casher في المجال العام /طعام الذبح الحلال عند اليهود..)، كما في جوهرها ومعنى وجودها (العزلة الوجدانية عن “الغوييم”، العمل المتواصل لتحقيق الحل الديني التوراتي ل”المسألة اليهودية”…).
2. يطلق على “حركة الاستنارة اليهودية” التي عرفتها المجتمعات اليهودية من منتصف القرن 18، بالعبرية اسم “الهسْكَلَة/الهسكلاه Haskalah” . وهي حركة تنوير فكري يهودي سعت لحل أوروبي ل”المسألة اليهودية” باستثمار مكتسبات عصر التنوير، والتحرر من مقولات ومعتقدات “الجيتو الديني المأساوي” الذي عاش فيه اليهود عشرات القرون (من رواد الحركة الفيلسوف الألماني موشي مندلسون Moses Mendelssohn (1729-1786)).مثلت هذه الحركة الفكرية حالة مواجهة ثقافية مفتوحة مع بنية لاهوتية يهودية متجذرة تحت السلطة الواسعة للحاخامات (سلطات دينية تلموديه، سلطات إدارية قضائية وتحكيمية داخل مجتمع مغلق ومنبوذ من محيطه المسيحي). وقد تطورت الهاسكلاه إلى حركة سياسية قومية تحت إسم “مَسْكِلِيم Maskilim” ،وصار لها دعاة وأنصار في مختلف دول أوروبا يرون أن فكر التنوير الأوروبي فرصة تاريخية سانحة أمام اليهود للانفتاح على المسيحيين والانصهار فيهم بالتخلي عن أسلوب العيش اليهودي ذي الطراز التقليدي المميز ل “الشخصية اليهودية المتخلفة الخاضعة للتقاليد المتزمتة” ، كما كان يهاجمهم بذلك الصحفي اليهودي الملقب ب “أبو القومية اليهودية” Peretz Smolenskin (1842-1885)، في جريدته “هاشاحار/ Ha-Shahar/ الفجر” التي أصدرها سنة 1868 في فيينا، باللغة العبرية.
3. التحق بهذه الحركة الاستنارية مجموعة من الحاخامات الإصلاحيين الألمان بزعامة Abraham Geiger (1810-1874) الذين بلغ بهم الحماس الاندماجي أن دعوا -مثلا- للتخلي عن عملية “الختان circoncision” التي يتميز بها اليهود عن المسيحيين، تشبُّها بهم، وتقربا ثقافيا منهم. لكن هذه الحركة انتهى مآلها في منتصف القرن 19 إلى الانحسار، واستعادة الأحبار الارثودوكس لسلطانهم التوراتي التاريخي على المجتمعات اليهودية بعد وقوع المذابح pogroms الروسية التي أعقبت اغتيال القيصر الروسي، والتي ذهب ضحيتها آلاف اليهود (شكل يهود روسيا القيصرية وأوروبا الشرقية على الدوام أكثر من 80% من يهود العالم)، وهو ما اعتُبر من طرف المجموعات اليهودية فشلا ذريعا لجهود حركة الاستنارة اليهودية وسقوطا مدويا لأوهام الاندماج والتعايش السلمي مع المسيحيين. وبذلك عادت المسألة اليهودية إلى نقطة البداية، لتبحث لها عن حل آخر، وهو الحل القومي الذي ستبلوره الحركة الصهيونية بشكل مبتكر في كتاب “الدولة اليهودية” لمؤسس الحركة الصهيونية Théodor Hertel .
4. لأهمية كتاب “الدولة اليهودية” ل T.Hertel سنخصص له ما يناسب من الحلقات، لكن ما يجب لفت الانتباه إليه، هو أنه في مقابل المعسكر الارثودوكسي المنتصر على حركة الهسكلاه، نشأ تيار فكري ليهود متحللين من الدين كليا أو جزئيا، ممن يعتبرون استمرار اضطهاد اليهود فشلا تاريخيا للحل الديني التوراتي للمسألة اليهودية. جُل رواد الحركة الصهيونية ينتمون لهذا المعسكر، بل منهم كثيرون أصحاب عقائد إلحادية، لكنهم – عكس غالبية مفكري مسيحيي الأنوار- ظلوا “يهودا متدينين وجدانيا” ؛ أي أنهم يلتقون مع الكتلة الارثودوكسية في البحث عن حل “المسألة اليهودية”، لكن من منطلق سياسي قومي/غير توراتي، يقوم على توظيف مكتسبات علم السياسة المعاصر، وعلى فقه تسخير موازين القوة الدولية لإيجاد حل نهائي للمسألة اليهودية. جديد هذا المنظور الصهيوني تجلى في تفادي الصراع مع المتدينين، بل نظَر للكتلة البشرية الارثودوكسية نفسُها، ولمعتقدها الديني بشأن مقولة “الأرض الموعودة terre promise” ، نظرةً وظيفية حوَّل بها هجرة اليهود المتدينين إلى وقود حيوي لقطار الحل/المشروع الصهيوني المطلوب وصوله بعناد يهودي إلى محطة “الوطن القومي لليهود في فلسطين” .
5. يؤكد المفكر اليهودي الألماني Gershom Scholem المتخصص في القبّالة la Kabbale ( يُقصد بها علم باطني خاص بأسرار التوراة، “تقبّله” كليم الله موسى مع الألواح، يستفْرِد بعلمه الأحبار ويتوارثونه كَسِرٍّ صوفي غير متاح لعموم اليهود)، أن هناك ثلاث ظواهر شكلت العناصر الأساسية للهوية الصهيونية المعاصرة لليهود، وهي “التحرر L’émancipation ” ، و “المحرقة Shoah” ، و “قيام دولة إسرائيل création de l’État d’Israël” ؛ وهو ما يعني أن الهوية الصهيونية المعاصرة لليهود ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ أوروبا وصنعت في مختبرها التاريخي-الديني-الاجتماعي، من جهتين: ( أولا) من جهة الجحيم المأساوي النفسي وحياة المنبوذية والاضطهاد الذي عاشه اليهود طيلة القرون الوسطى في ظل السلطان الروحي والزمني المهيمن للكهنوت المسيحي؛ و (ثانيا) من جهة صعود الفكر القومي الشوفيني على أنقاض الفكر الديني منذ القرن 17، في ما يشبه عملية إعادة تركيب كيميائي للمواد المتفجرة المشكلة ل “العنصرية الدينية” ، في تركيب ذي قوة تفجيرية أكبر جسدته “العنصرية العرقية” التي أنتجت المحرقة Shoah في الحرب الأوروبية/العالمية الثانية (1939-1945).
(يتبع في المقالة الثامنة)