الدكتور الحبيب الشوباني
المقالة الثالثة عشرة
[الأصول الدينية ل “الحل الصهيوني” ل “المسألة اليهودية”: من دعوة “مارتن لوثر” المسيحية ..إلى دولة “تيودور هرتزل” اليهودية].. (1)
1 . من حقائق التاريخ المؤكدة، أن أول دعوة دينية لهجرة اليهود إلى فلسطين، وتجميعهم هناك في “وطن قومي”، خرجت من ألمانيا في القرن 16م. صاحب الدعوة لم يكن سوى رجل الدين الثائر على الكنيسة الكاثوليكية، ومؤسس المذهب المسيحي البروتستانتي، الكاهن “مارتن لوثر Martin Luther” (1483-1546) . فقد ألف “لوثر” سنة 1520م كتابا سماه “عيسى وُلد يهوديا” ، ثم كتاب “روما والقدس” لتوضيح الأسس الدينية لدعوته الاستيطانية الإحلالية في فلسطين. لذلك، ودون استحضار تأثير كتابات الأب الروحي للمذهب البروتستانتي “لوثر” ، لا يمكن فهم طبيعة العلاقة العضوية الاعتقادية بين صناع القرار السياسي في مؤسسات الحكم داخل المجتمعات المسيحية البروتستانتية (الولايات المتحدة الأمريكية نموذجا)، وبين حالة الهَوَس الديني بنصرة مشروع احتلال فلسطين وإقامة الدولة اليهودية على أنقاض الشعب الفلسطيني.
2. بعد حوالي ثلاثة قرون من دعوة “مارتن لوثر” وأثرها الكبير في المجتمعات البروتستانتية، سطع نجم الأسقف الألماني “وليم هنري هشلر William Henry Hechler”(1845-1931) . وُلد هشلر في الهند حيث كان أبوه يعمل مبشراً إنجيلياً، وكُلف بمهام تبشيرية في نيجيريا سنة 1871، ثم اختير مربيا لأطفال عَمِّ قيصر ألمانيا (القيصر فيلهلم الثاني Wilhelm II/ 1859-1941) وممثله في نيجيريا. شارك سنة 1882م في اجتماع دعت إليه نخبة من المسيحيين خُصِّص لبحث “المسألة اليهودية” من منظور السعي المسيحي لتوطين اليهود في فلسطين، توجَّه عقبه إلى القسطنطينية رسولا محمّلاً بكتاب من الملكة فيكتوريا إلى الخليفة العثماني، تطلب فيه منه السماح بتوطين اليهود اليديشيّين في الأرض المقدَّسة (اليهود اليديشيّون نسبة إلى اللغة اليديشية Yiddish، كان يتحدث بها أكثر من ثلتي يهود روسيا القيصرية، وهي مزيج من روافد اللغات الجرمانية والعبرية والسلافية).
3. في سنة 1882م وضع هشلر كتابا سمّاه “عودة اليهود إلى فلسطين حسب النبوءات”، صاغ فيه معتقداته المشيحانية messianiques التي بشَّر بها منذ العام 1880م، والتي يؤمن بموجبها بأن “المشروع الصهيوني مشروع إلهي” ، وأن العمل على تنفيذه بتجميع اليهود في فلسطين، من صميم الاستجابة المخلصة للتعاليم التوراتية والنبوءات الإنجيلية. عندما أصدر هرتزل كتابه “الدولة اليهودية” اتصل به هشلر مهنئا وتوطدت بينهما العلاقة ليصبح من أخلص أصدقائه وعَرَّابُهُ للدخول على الملوك والقياصرة الذين التقى بهم هرتزل لاحقا في ألمانيا وروسيا والقسطنطينية. قال هشلر عن كتاب هرتزل “إنه أول محاولة عملية وموضوعية وجادة لتعليم اليهود كيف يتَّحِدون من جديد لتكوين أمة في أرض الميعاد التي وعدهم الإله بها”. كان هشلر مهووسا بالحسابات العددية المستنبَطة من نبوءات الكتب المقدسة عن نزول المسيح (نوع من الإعجاز العددي عند المسيحيين)، وما يتصل بها من “عقائد نهاية العالم les doctrines apocalyptiques”، وبناء عليها ألف كتابه المشار إليه أعلاه.
4. بحسب العقائد المَشِيحَانيَّة التي تعتنقها كافة أطياف ومذاهب “الصهيونية المسيحية sionisme chrétien ” ، فإن الصهيونية تمثل “الحل الأبدي للمسألة اليهودية” ، وأن الانشغال بمصير اليهود واجب ديني، لأن من شأن الالتزام الصادق به التعجيل بالتخلص منهم بحشرهم في “أرض الميعاد”، وهو شرط إلهي لتحقُّقِ نبوءة العهد الذهبي للبشرية (مدته ألف عام قبل قيام الساعة /الألفية السعيدة) والذي يبدأ بعودة “المسيح المُخَلِّص” ؛ وإنما يُسمّى المسيح مُخَلِّصاً لأنه هو من سيُخلِّصُ اليهود من شرورهم المتأصلة فيهم بكفرهم، بتحويلهم من اليهودية إلى المسيحية. بحسب توقعات هشلر الحسابية، فقد زعم في كتابه أن عودة اليهود ستتحقق ما بين سنة 1897م وسنة 1898م؛ وقد حضر كمسيحي صهيوني في أول مؤتمر للحركة الصهيونية في سويسرا 1897م، وحظي بتنويه خاص وعلني من هرتزل على الجهود التي يبذلها لتحقيق حلم اليهود في وطن قومي، وقد سافرا معاً إلى فلسطين سنة 1898م.
5. في الولايات المتحدة الأمريكية لا يمكن فهم حالة “العلاقة الروحية” بين الدولة اليهودية وبين “المسيحية الصهيونية” ونفوذها السياسي والمالي والإعلامي في أمريكا، دون إدراك أن المستوطنين البروتستانت (جلهم من البيوريتانPuritains / خوارج الأمة المسيحية) كانوا يعتبرون أنفسهم في وضع العبرانيين، وينظرون لأمريكا باعتبارها صهيون الجديدة ،أما السكان المحليون أو الأصليون فهم عندهم كالكنعانيين والعماليق أجداد العرب. أي أنهم عندما هاجروا من أوروبا وأنشأوا أولى المستعمرات الأمريكية وأبادوا السكان الأصليين، كانوا يعتقدون دينيا أن الوطن الجديد/أمريكا يرمز ل “أورشليم الجديدة” ، وأنهم “بنو إسرائيل عصرهم” فرّوا من “فرعون زمانهم” (الملك جيمس الأول/ 1566 – 1625م)، وأنهم بهجرتهم وعذاباتهم المقدسة تلك مُنحوا “أرض ميعاد جديدة”. يقول الأب البروتستانتي “جون كوتون John Cotton 1585 -1652” أشهر واعظ في مستوطنة خليج Massachusetts واصفا هذا الشعور الديني: “إنَّ الرب حين خلقنا، ونفخ فينا روح الحياة أعطانا أرض الميعاد الجديدة أمريكا، وما دمنا الآنَ في أرضٍ جديدة فلا بُد من بدايةٍ جديدةٍ للحياة، نعمل فيها من أجل مجد بني إسرائيل، هذا الشعب المختار”.
6 .هذه الدافعية الدينية للهجرة هي التي تفسر أن أول كتابٍ طُبع في أمريكا هو “سفر المزامير” (أحد أسفار الكتب المقدسة اليهودية، والعهد القديم من الكتاب المقدس المسيحي)، كما تفسر أن أول مجلةٍ صدرت حملت عنوان “اليهودي” ؛ وأن المستوطنين أطلقوا على “نهر كولورادو” الاسم التوراتي القديم “باشان” ؛ وأنه تم تقديم اقتراح بأن تكون اللغة العبرية لغة أمريكا الجديدة بدلاً من الألمانية أو الإنجليزية؛ وأن أول درجة دكتوراه منحتها جامعة هارفارد عام 1648 كانت لأطروحة بعنوان “العبرية.. اللغة الأم” . أما في سنة 1887م فقد أسس المسيحي الصهيوني “ويليام أوجين بلاكستون William Eugene Blackstone ” /(1841-1935) منظمة “البعثة العبرية نيابة عن إسرائيل” في شيكاغو، والتي ما تزال تنشط إلى اليوم باسم “الزمالة اليسوعية الأمريكية” . وهو مؤلف كتاب “عيسى قادم Jesus is coming” والمؤسس الأول – قبل حركة هرتزل – ل “جماعات الضغط lobby” المختصة في التأثير على القرار السياسي لإنشاء الدولة اليهودية في فلسطين. تزعَّم “بلاكستون” عريضة pétition تم تقديمها إلى رئيس الولايات المتحدة تدعو لتسليم فلسطين لليهود، وقد وقع عليها العديد من الشخصيات الأمريكية المؤثرة، وتم تسليمها للرئيس “بنيامين هاريسون BENJAMIN HARRISON ” في 5 مارس 1891.
7. من بين ما افتتحت به العريضة خطابها وبرَّرت به مطالبها، الفقرة التالية: What shall be done for the Russian Jews? It is both unwise and useless to undertake to dictate to Russia concerning her internal affairs. The Jews have lived as foreigners in her dominions for centuries and she fully believes that they are a burden upon her resources and prejudicial to the wellfare of her peasant population, and will not allow them to remain. She is determined that they must go. Hence, like the Sephardim of Spain, these Ashkenazim must emigrate. But where shall 2,000,000 of such poor people go? Europe is crowded and has no room for more peasant population. Shall they come to America ? This will be a tremendous expense, and require years./”ماذا يجب أن نفعل لليهود الروس؟ من غير الحكمة وغير المجدي في نفس الوقت القيام بإملاء الأمور على روسيا فيما يتعلق بشؤونها الداخلية. لقد عاش اليهود كأجانب في أراضيها لعدة قرون، وهي تعتقد تمامًا أنهم يشكلون عبئًا على مواردها ويضرون برفاهية سكانها الفلاحين، ولن يسمحوا لهم بالبقاء. إنها مصممة على ترحيلهم. وبالتالي، مثل السفارديم في إسبانيا، يجب على هؤلاء الأشكناز أن يهاجروا. ولكن أين سيذهب 2.000.000 من هؤلاء الفقراء؟ أوروبا مزدحمة ولا يوجد بها مجال لمزيد من السكان الفلاحين. هل سيأتون إلى أمريكا؟ ستكون التكلفة هائلة، وسيتتطلب الأمر سنوات].
8. ختم “بلاكستون” عريضته محرضا رئيس الدولة على التعجيل بالأمر بقوله: We believe this is an appropriate time for all nations and especially the Christian nations of Europe to show kindness to Israel. A million of exiles, by their terrible suffering, are piteously appealing to our sympathy, justice, and humanity Let us now restore to them the land of which they were so cruelly despoiled by our Roman ancestors. To this end we respectfully petition His Excellency Benjamin Harrison, President of the United States, and the Honorable James G. Blaine, Secretary of State, to use their good offices and influence with the Governments of their Imperial Majesties : Alexander III,Czar of Russia;Victoria, Queen of Great Britain and Empress of India;William II, Emperor of Germany;Francis Joseph, Emperor of Austr-Hungary;Abdul Hamid II, Sultan of Turkey;His Royal Majesty, Humbert, King of Italy;Her Royal Majesty Marie Christiana, Queen Regent of Spain;/ نعتقد أن هذا هو الوقت المناسب لجميع الدول، وخاصة الدول المسيحية في أوروبا، لإظهار العطف تجاه إسرائيل. إن مليون من المنفيين، بسبب معاناتهم الرهيبة، يناشدون بكل شفقة تعاطفنا وعدالتنا وإنسانيتنا. دعونا الآن نعيد إليهم الأرض التي سلبهم منها أسلافنا الرومان بقسوة (يقصد فلسطين). ولتحقيق هذه الغاية، نطالب بكل احترام من فخامة السيد بنجامين هاريسون، رئيس الولايات المتحدة، ومن معالي السيد جيمس جي. بلين، وزير الخارجية، إعمال مساعيهما الحميدة ونفوذهما لدى حكومات أصحاب الجلالة الإمبراطورية: ألكسندر الثالث، قيصر روسيا؛ فيكتوريا، ملكة بريطانيا العظمى وإمبراطورة الهند؛ ويليام الثاني، إمبراطور ألمانيا؛ فرانسيس جوزيف، إمبراطور المجر النمساوية؛ عبد الحميد الثاني، سلطان تركيا؛ صاحب الجلالة الملكية همبرت، ملك الإمبراطورية النمساوية المجرية. إيطاليا؛ صاحبة الجلالة الملكية ماري كريستيانا، ملكة إسبانيا؛
(يتبع في الحلقة الرابعة عشرة)