الدكتور الحبيب الشوباني
المقالة الخامسة والعشرون
في بيان كيف َأَجْهَزَ طوفان الأقصى استراتيجيا
على “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية” (1/2)
د.الحبيب الشوباني
- في استعراضنا المُرَكَّز لصيرورة “المسألة اليهودية La question juive “ عبر حَلَقات المقالات السابقة، خلُصنا إلى أن تعايُش الجماعات اليهودية في أوروبا مع الأغيار/الﯖوييم، حوالي عشرين قرنا من الزمن، كان تاريخ فشل مأساوي عاشه “الإنسان اليهودي الأوروبي” في نَبْذٍ، واضطهادٍ، ومذابحَ، وسعيٍ دائم للتخلُّص من وجوده، لأنه جسَّد في عقل “الإنسان الأوروبي المسيحي” خلاصة أخلاق الشر، والقذارة، والاستعلاء، والمكر، والغدر، والخُبث. وتأسيسا على ما سبق أيضا، خلُصنا إلى تقسيم تاريخ صيرورة “الحل الأوروبي للمسألة اليهودية” إلى “ستة (6) حِقَبٍ ” متمايزة في تحديد خصائصه، أنتجت “ستة (6) حلول” فاشلةفيمعالجته، لأنها تلبَّست ب “ستة (6) مآزق” كانت في كل مرة تحاصر هذا الحلَّ وتحولُ دون تحقيق أهدافه المرسومة له. ولقد تأكد لنا من البحث المعمق لهذه الظاهرة السياسية، أن كل حلٍّ كان يأتي تاريخيا كجواب لرفع تحدي الخروج من مأزق خطير تواجهه المسألة اليهودية، لكنه حلٌّ سرعان ما يُفضى إلى مأزقٍ جديدٍ أخطرَ منه وأشدَّ استعصاءً على الحلِّ النهائي المأمول. وفيما يلي بيان مختصر لسرديتنا لهذه المتسلسلة من الحِقب، والحُلول، والمآزق Cette série d’époques, de solutions et de dilemmes التي حكمت مسار وصيرورة “المسألة اليهودية” كما صنعها الغرب، وكما صدَّر حلَّها الصهيوني للعالم الإسلامي، ونفَّذه في فلسطين التي تمثل موقع القلب من جسده؛
- الحقبة الأولى: حقبة ما قبل ظهور حركة الإصلاح الديني البروتستانتي (70م-1520م)؛ وتمتد على مساحة زمنية تقارب الخمسة عشر (15) قرنا، تبدأ من سنة 70 م (تاريخ آخر اضطهاد روماني لليهود، تم في عهد الامبراطور تيتوس Titus في بلاد الشام)، حتى تاريخ كتابة مؤسس المذهب المسيحي البروتستانتي الكاهن مارتن لوثر Martin Luther كتابين بعنوان “عيسى وُلد يهوديا” و”روما والقدس” سنة 1520م؛ ولقد دعا فيهما لوثر إلى عدم اضطهاد اليهود لعلاقتهم بعيسى العِبراني نبيِّ وإلهِ المسيحيين؛ وشرحَ فيهما النبوءات والأسس الدينية الموجبة لضرورة عودتهم إلى فلسطين؛ لقد تميزت هذه الحقبة بوحدة الموقف المسيحي الكاثوليكي من اليهود، نتج عنه “حل أوروبي لاهوتي للمسألة اليهودية”، يمكن نعته ب “الحل بحياة المنبوذية والاضطهادLa Solution par la vie en paria et la persécution“. واضح إذن أنهذا الحل أنتجه بشكل طبيعي “مأزق المنظور الديني العدائي المتبادل بين المسيحي واليهودي”، والذييؤسسه اليهودي على استعلائيته وازدرائه للمسيحي وعقيدته (المسيحي جزء من الﯖوييم ذو طبيعة منحطة وغير طاهرة)؛ ويؤسسه المسيحي على تهمته الدينية لليهودي بوصفه قاتلا لإلهه “المسيح/ابن الله”؛ وقد أنتج هذا الحل تاريخيا واجتماعيا “مأزق الفصل الاجتماعي- الدينيDilemme de la ségrégation socio-religieuse“ الذي جسده “الجيتو اليهودي Ghetto Juif” في المجتمعات المسيحية، وأكدته وقائع تاريخ الاضطهاد المزمن الذي عانى منه اليهود فيها؛
- الحقبة الثانية: حقبة ما قبل الثورة الفرنسية (1520-1789): وتمتد على مسافة زمنية تقدر بحوالي قرنين ونصف من الزمن، بدأت من سنة 1520 التي أحدث فيها الموقف البروتستانتي شرخا دينيا في الموقف العدائي المسيحي التاريخي ضد اليهود، حتى سنة 1789 التي تصادف تاريخ نجاح الثورة الفرنسية في تغيير النظام السياسي في فرنسا تغييرا جذريا، وإعلان مبادئ المساواة والإخاء والحرية بين الأوروبيين في إطار وثيقة/إعلان “حقوق الإنسان والمواطن”؛ وقد تميزت هذه الحقبة بالتأثير المزدوج لدور فلاسفة ومفكري الأنوار، ولتراجع تأثير الموقف اللاهوتي الناتج عن تشرذم الموقف الديني المسيحي من اليهود، كنتيجة للصراع بين الكاثوليك المحافظين على موقفهم العدائي التاريخي، والبروتستانت المتمردين على هذا الموقف، وهو ما أسس النواة الأولى لتيار المسيحية الصهيونية في الغرب. في هذا السياق نتج “حل أوروبي تنويري للمسألة اليهودية” يمكن نعته ب “الحل بالاستيعاب والمساواةLa Solution par l’Assimilation et l’Egalité “، والذي استجاب له نخبة من مفكري اليهود بحماس كبير فيما عرف تاريخيا ب”تيار الاستنارة اليهودية/ الهسكلاه”. غير أن هذا الحل أنتج مأزقا جديدا للمسألة اليهودية يمكن وصفه ب”مأزق فشل الحل بالاندماج والمساواةDilemme de l’échec de la solution par l’assimilation et l’égalité “، بسبب أن فكر الأنوار ظل تحولا فكريا وسياسيا نخبويا، ولم ينجح في النَّفاذ إلى عمق الوجدان الأوروبي الشعبي العام، وفشله في تطهيره من ثقافة العداء المسيحي المتجذر في اللاشعور الجمعي ضد اليهود؛ وقد تجسد هذا الفشل في استمرار وتفشي الممارسات العدائية المجتمعية المسيحية ضد اليهود، والتي كان أشهرها مذابح روسيا ومحاكمة الضابط الفرنسي دريفوس في باريس؛
- الحقبة الثالثة: حقبة ما قبل ميلاد مؤسسات الحركة الصهيونية (1871-1897): تمتد هذه الحقبة من تاريخ مذبحة مدينة أوديسا Odessa في روسيا سنة 1871، ومحاكمة الضابط اليهودي الفرنسي دريفوس Dreyfus في باريس سنة 1894م، حتى تاريخ تنظيم المؤتمر الأول للحركة الصهيونية العالمية في مدينة بازل بسويسرا في 29 غشت1897م؛ وقد تميزت هذه الحقبة ب“إنتاج الأدبيات المؤسسة للحل الصهيوني للمسألة اليهودية” كاستجابة لتحدي الخروج من مأزق فشل استيعاب واندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية الحديثة. ومن أبرز منظري هذا الحل،المفكر النمساوي ناتان بيرنبوم Nathan Birnbaum واضعُ مصطلحِ “الصهيونية“، والطبيب الروسي ليون بينسكر Léon Pinsker مؤلف كراسة “التحرر الذاتي: تحذير يهودي روسي لإخوانه” بعد مذبحة أوديسا، والصحفي والمحامي النمساوي-المجري تيودور هرتزل Théodore Herzl صاحب كتاب “دولة اليهود: محاولة لإيجاد حل حديث للمسألة اليهودية” بعد محاكمة الضابط دريفوس. هذا الحل يمكن وصفه ب“الحل بالعودة والتجميعLa Solution par le Retour et l’Agrégation “، ويقوم على فكرة تجميع يهود العالم في “وطن قومي آمن لليهود” أو “دولة آمنة لليهود” في فلسطين. إلا أن هذا الحل أنتج مأزقا جديدا وخطيرا للمسألة اليهودية يمكن تسميته ب“مأزق الأساطير اللاهوتية والسياسية المؤسسة لاحتلال فلسطينLe dilemme des mythes théologiques et politiques fondateurs de l’occupation de la Palestine “، وقد تجسد هذا المأزق في اختلاق الحركة الصهيونية لمنظومة من الأساطير تم توظيفها بفعالية في الدعاية لهذا الحل والإقناع به يهوديا وأوروبيا، أبرزها “أسطورة أرض الميعاد” و”أسطورة الشعب اليهودي”، و”أسطورة الشتات” و”أسطورة فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”..إلخ.
- الحقبة الرابعة: حقبة ما قبل إعلان قيام دولة “إسرائيل” (1858-1948): وتمتد من تاريخ وصول الطلائع الأولى للاستيطان اليهودي الحديث إلى فلسطين في أواخر القرن الـ19، حتى تاريخ تسريع وتيرة “الصعود اليهودي” / (“عليا” / بالعبرية: עלייה) نحو “أرض الميعاد” في الحرب العالمية الثانية؛ أي في الفترة الممتدة من 1939إلى 1948. للتذكير، فهذه الهجرة الأولى والمدبَّرة بدوافع استيطانية استعمارية قامت بها الجماعات اليهودية إبان الحكم العثماني، والذي رغم كونه تنبَّه للأمر وأصدر مجموعة من القوانين والتشريعات سنة 1855 و1869 و1887 لمنع تمليك الأجانب الأراضي في فلسطين، وجعل زيارة اليهود تكتسي طابعا سياحيا دينيا لا تتعدى مدته 31 يوما، مقابل دفع 50 ليرة تركية، ومنع تأسيس المستوطنات؛ إلا أن هذه القوانين لم تمنع اليهود من شراء الأراضي من الإقطاعيين بطرق ملتوية، باعتماد دفع الرشاوى واستغلال حالة الفساد الإداري المتفشي في أركان الدولة العثمانية. وقد تميزت هذه الحقبة بإنتاج ما يعرف ب“الحل الألماني النازي والنهائي للمسألة اليهودية”، وهو حل ثنائي المداخل والنتائج، تم تنفيذه بآلية الصفقة التجارية “الهعفراه” بالاتفاق مع الحركة الصهيونية لتهجير آلاف “اليهود النافعين”، مقابل دعم الاقتصاد الألماني بحوالي 22 مليار دولار من أموال وتجارة اليهود؛ ثم بآلية المحرقة النازية للتخلص من فائض “اليهود غير النافعين”؛ هذا الحل المزدوج للمسألة اليهودية يمكن وصفه ب“الحل بالهجرة والإبادة La solution par l’Immigration et l’Extermination “. إلا أن هذا الحل أنتجوضعا استعماريا استيطانيا أدخله في مأزق جديد هو “مأزق الاصطدام بحقيقة وجود الشعب الفلسطيني على أرضه Le dilemme de la confrontation avec la réalité de l’existence du peuple palestinien sur son sol “. لقد حوّل اصطدام الحل الصهيوني بهذه الحقيقة العنيدة تاريخ “حلم دولة اليهود الآمنة” إلىتاريخ صراع دموي متواصل لتثبيت الأساطير المؤسسة لوجودها، ولتحقيق الأمن للمجتمع الصهيوني بالقوة والردع والمروق عن كل المقررات الأممية ذات الصلة بالصراع؛ أي جعل تاريخ الوجود الصهيوني القصير في فلسطين المحتلة تاريخ مواجهاتوحروب لا تنتهي إلا لتبدأ، ضد شعب أصيل ومتجذر في أرضه، متشبث بحريته واستقلاله، ومستعد على الدوام لتقديم التضحيات الضرورية لإفشال الحل الصهيوني للمسألة اليهودية.
- الحقبة الخامسة: حقبة ما بعد إعلان قيام “دولة اليهود” (1948-2023): وتمتد من تاريخ إعلان قيام دولة “إسرائيل” واكتمال المرحلة الأولى من تنفيذ المخطط الصهيوني في 15 ماي 1948، حتى تاريخ انفجار طوفان الأقصى بتاريخ 7 أكتوبر 2023 في صورة حرب تحرير فلسطينية ذات خيارات جذرية بعد فشل كل المسارات المحسوبة على تاريخ عقيم من المفاوضات والمبادرات الإقليمية والدولية؛ وقد تميزت هذه الحقبة بما يمكن توصيفه ب“حقبة استدامة وتأمين الحل الصهيوني بالقوة”، كواقع استعماري جديد ومتقدم في قلب العالمين العربي والإسلامي، يجسده كيان استيطاني وظيفي خادم لاستراتيجيات امبريالية غربية لا تخفي أطماعها الاستعمارية والتحكُّمية في مصير وثروات شعوب المنطقة. هذا الحل يمكن وصفه ب “حل التطبيع بالقوة مع الحل الصهيوني للمسألة اليهوديةLa solution de la normalisation par la force avec la solution sioniste à la question juive“. إلا أن هذا الحل واجه قبل الإعلان الرسمي عن ميلاده مأزقا وجوديا يمكن التعبير عنه ب “مأزق الرفض الشعبي الجذري للتطبيع مع الحل الصهيوني للمسألة اليهودية Le dilemme du rejet populaire radical de la normalisation avec la solution sioniste à la question juive“؛ هذا الرفض الشعبي -المتلاحم أو المسنود بدرجات متفاوتة من الموقف الرسمي العربي والإسلامي- متجذر وثابت في مختلف مكونات وطبقاتالشعب الفلسطيني، والشعوب العربية والإسلامية، وهو ما حوَّل قيام واستمرار المجتمع الصهيوني إلى وجودٍ مُكْلفٍ جدا – سياسيا وماليا وأخلاقيا وعسكريا- للساهرين على تطبيع وجوده، وتأمين استمراره دون إسناد وحماية خارجية، بسبب طبيعته الاستيطانية الإحلالية التوسعية والعنصرية التي لم تتوقف مقاومتها منذ زرعه.
- الحقبة السادسة: حقبة ما بعد طوفان الأقصى: وتمتد من 8 أكتوبر 2023 حتى الآن؛ وقد تميزت هذه الحقبة القصيرة بتحولات استراتيجية كبرى رسمت ملامح التلاشي المعنوي للحل الصهيوني ولسرديته المؤسسة، كنتيجة مباشرة للبأس الذي أبانت عنه المقاومة الفلسطينية وهي تخوض جولة حاسمة من حرب التحرير بعد إفلاس كل مشاريع التسويات السلمية؛ ثم بسبب مشاهد الإبادة الجماعية التي نجمت عن أعنف عدوان دموي بربري لجيش الاحتلال الاستيطاني الصهيوني ضد المقاومة الفلسطينية المسلحة وحاضنتها الشعبية، منذ 1948؛ويمكن توصيف هذه المرحلة بحقبة “الحل الفلسطيني ل”الحل الصهيوني للمسألة اليهودية”La solution palestinienne de « la solution sioniste à la question juive » “؛ وقد أنتجت هذه المواجهة تحولات استراتيجية كبرى في تاريخ هذا الصراع التحرري، دخل بسببها المشروع الصهيوني في مأزق جديد يمكن نعته ب“مأزق انتهاء صلاحية استزراع الحل الصهيوني للمسألة اليهودية في العالم العربي- الإسلامي Le dilemme de l’expiration de la greffe de la solution sioniste a la question juive dans le monde arabo-islamique“. وهو ما سنبينه بالتفصيل اللازم في تتمة هذه المقالة الأخيرة.
(يتبع في المقالة 26 الأخيرة)