محمد الطالبي
بغض النظر عن الخلفيات التي تحكم دينامية الافتراضي وظهور وسوم احتجاجية على منصات التواصل الاجتماعي بالمغرب، فإن هذه الديناميات التي يعرفها الفضاء العام الافتراضي المغربي تحتاج بعضا من الاهتمام العلمي والتأصيل النظري، فهذه الدينامية بدأت بقوة أثناء الزخم الاحتجاجي لحركة الـ 20 من فبراير، وبرزت بشكل لافت في حملة المقاطعة لسنة 2018، وأخذت امتدادها أثناء الحرَاكَات التي عرفها المغرب، سواء المجالية (الريف، جرادة..)، أو القطاعية والمهنية (الطلبة الأطباء، الأساتذة المتدربين والمتعاقدين..).
التأصيل المفاهيمي
أكيد أن مفهوم الفضاء العام استعمل لدى المفكر الألماني “يورغن هابرماس”، في أطروحته التي نشرت سنة 1960 تحت عنوان: “الفضاء العمومي أركيولوجيا الدعاية باعتبارها مكونا بنيويا للمجتمع البرجوازي”، حيث تطرق إلى ميلاد الفضاء العمومي البورجوازي بانجلترا خلال القرن 18.
وأكد هابرماس أن هذا الفضاء تميز بميلاد الصحافة التي شكلت أداة للسلطة السياسية من أجل إيداع المراسيم وأخبار الأمن والمحاكم وأسعار المنتجات، وظهرت أيضا فضاءات عامة (مقاهي، صالونات، نوادي..)، حيث كان البورجوازيون يتبادلون فيها الرأي ويتناقشون في قضايا الفن والمسرح والأدب.
يفترض “هابرماس” أن فكرة التواصل هي ترجمة حقيقية للديمقراطية وللممارسة الديمقراطية، بوصفها التشكيل الحر للإرادة الشعبية، التي تترجم عبر وسائل التواصل المختلفة التي تقود بدورها إلى الحوار، من دون إكراه وتسلط عبر التفاهم المستمر بين (الأنا والآخر) ودون اللجوء إلى العنف، وهو ما يعمل على تكوين مجال عام، يعتبره “هابرماس”، “مفتاح الديمقراطية الذي يتوسط العلاقة بين المجتمع المدني والدولة”.
من هذا كله عرف “هابرماس” الفضاء العام بأنه مجتمع افتراضي أو خيالي ليس من الضروري التواجد في مكان معروف أو مميز (في أي فضاء)، فهو مكون من مجموعة من الأفراد لهم سمات مشتركة مجتمعين مع بعضهم كجمهور، ويقومون بوضع وتحديد احتياجات المجتمع مع الدولة، فهو يبرز الآراء والاتجاهات من خلال السلوكيات والحوار، والتي تسعى للتأكيد على الشؤون العامة للدولة وهو شكل مثالي.
أما بخصوص الفضاء الافتراضي، فهو مصطلح حديث التداول الفكري، فيقصد به كل ماله صلة بالفضاء التخيلي، بشقه المادي والمتمثل في إبداع سبل جديدة في هندسة تكنولوجيات الافتراضي وبشقه الاعتباري، يضم أنشطة عالمنا الواقعي المعتاد، أو في امكانه أن يضمها جميعها ويضم أشياء أخرى”.
وعرفه “فريدريك مايو” على أنه بيئة إنسانية وتكنولوجية جديدة للتعبير عن المعلومات والتبادل، وهو يتكون أساسا من أشخاص ينتمون لكل الأقطار والثقافات واللغات والأعمار والمهن المرتبطة ببعضها البعض عن طريق البنية التحتية الاتصالية التي تسمح بتبادل المعلومات ونقلها رقمية.
في السياق المغربي
أما في السياق المغربي، فخلصت دراسة أعدها الباحث رضوان قطبي، في ورقة حول:” شبكات التواصل الاجتماعي والفضاء العام العمومي الافتراضي بالمغرب”، أن شبكات التواصل الاجتماعي، ساهمت بشكل كبير في “تشكيل مجال عمومي افتراضي للتعبير السياسي، حيث يمارس المواطنون أفرادا وجماعات في هذا المجال العمومي الجديد مجموعة من الأنشطة السياسية المتعلقة بالشأن العام”.
إن هذه التحولات كلها ساهمت في بروز تمظهرات للأفراد العاديين والنخبة والمؤسسات السياسية على “الفايسبوك”، بحيث ساهمت في فرض حرية الرأي والتعبير والنقاش والجدل بين مختلف الأفكار والآراء، أدى بالكثيرين لجعل “الفايسبوك” فضاء عاما افتراضيا مكملا للفضاء العام الواقعي بالمعنى “الهابرماسي”.
وبينت حملة المقاطعة، والدينامية الحالية المتنامية بسبب غلاء الأسعار وارتفاع اثمنة المحروقات، وقبلهم الدينامية التي رافقت حراك 20 فبراير وحراكات الريف وجرادة واحتجاجات طلبة الطب والأساتذة المتدربين والمتعاقدين وغيرهم، على حيوية المجتمع المدني ودينامكيته وانخراطه الفعلي في الإصلاح السياسي، بحيث أن درجة التفاعل الشعبي كان قويا، إلى درجة تجاوز دور المؤسسات لا السياسية ولا النقابية والحكومة والبرلمان وغيرها من مؤسسات الوساطة.
لقد حدثت تحولات بارزة في طبيعة المجتمع المدني الذي كان يركز أدواره على الفعل الجمعوي المدني، وتحول دوره إلى فاعل سياسي من خلال استغلال فضاءات التواصل الاجتماعية “يعيد المجتمع المدني، في هذا السياق، فرض الحقائق الجديدة، وتثمين أدوار الانترنت في نشأة المجتمع المدني، وافتكاك مساحات واسعة على حساب الأحزاب السياسية والأنظمة الحاكمة، وهذا ما أكدته الثورات العربية وما لحقها من تحولات جراء أثر الافتراضي فيها” (جوهر الجموسي، الافتراضي والثورة مكانة الانترنت في نشأة مجتمع مدني عربي، ص 85).
لقد ازدادت فاعلية المواطنين والنقاش الدائر، بحيث استطاعت هذه الدينامكية أن تعيد المجتمع المدني إلى الواجهة، بعمق نقدي إصلاحي سياسي، فلم يعد المجتمع المدني يختصر التنمية في المشاريع البعيدة عن الإصلاح السياسي الشامل، إذ بينت دينامية الاحتجاج الافتراضي وما رافقه من حضور ميداني واقعي بالمغرب دور الفاعلين المدنيين في التغيير والتأثير الجماعي على مصادر القرار السياسية والاقتصادية، بل تغيير موازين القوة لصالحها، وبينت أن مجتمع “المواطنين”، لا يتبلور بمعزل عن مسألة الدولة والشأن السياسي، بل من خلال عملية تفاعل معها.
ما بعد السياسة
أدت هذه التحولات الرقمية وبروز ما يمكن أن نسميه بـ “الاحتجاج الرقمي الافتراضي” في إطار تحالفه مع دينامكية “المجتمع النقدي” إلى إحداث تحولات عميقة في بنية المؤسسات وأدوارها، إذ تم تجاوزها، لقد أدت هذه التحولات إلى “تراجع واستقالة الوساطة المؤسساتية منها السياسية والمدنية والنقابية، فأصبحت المعارضة الحقيقية والفعلية تتموقع خارج المؤسسات والبنيات المنظمة لترسو في أول الأمر في الشارع في بعده الوطني والجهوي والترابي موقعا للاحتجاج (..) وتنتقل من معارضة واقعية إلى معارضة افتراضية تعتمد منطقا عابرا للحدود، ومنفتحا على جميع الحساسيات المجتمعية”. (سعيد بنيس، من التجاهل إلى التفاعل.. في علاقة المقاطعة بالفاعل المؤسساتي).
لقد سماها أستاذ “الأنثربولوجيا” السياسية، محمد المعزوز، في حوار أجراه مع موقع “هسبريس” الالكتروني بـ “الفوضى التفاوضية” التي اعتبرها من جنس الفعل الاحتجاجي التي دعا إليها عالم الاجتماع الفرنسي “ألان تورين”، ويعتبر فضاء شبكات التواصل الاجتماعي واستعمالات “الديجيتال” المتطورة الحقل الملائم والممتد الذي يستنبت هذه الحركات الاحتجاجية ويمأسس “الفوضى التفاوضية”، فهذه الفوضى هي نتاج تحالف بين التكنولوجيا التي أفرزت فضاءات اجتماعية تفاعلية، بالإضافة إلى بنية المجتمع التي تحولت في ظلها إلى بنية تفاعلية نقدية ذات عمق سياسي.
لقد عزى المعزوز هذه التحولات إلى سرعة سيطرة “الدجيتيل” Digital على الحياة اليومية، والكشف عن الأسرار ودقائق العالم وحياة الآخرين، مهما تباعدوا جغرافيا، إذ ستظهر كثيرا من المجتمعات التي نعتقد أنها مفتوحة مغلقة، لأن الفعل الاجتماعي عبر “تاريخيته” بلغة “تورين” هو فعل متطور ومتجدد، تحكمه رغبات الناس اللامحدودة في التحسين المستمر لعيشهم.
وخلص الباحث إلى ملاحظة مهمة، بل من بين التوصيات الاستراتيجية التي يمكن أن نستخلصها من تحالف الافتراضي والفعل الاحتجاجي في ظل تطور وديناميكية “المجتمع النقدي”، بحيث دعا إلى تجاوز أي انفجار ما بين الدولة والمجتمع وتوطيد الاستقرار بكل معانيه العادلة، بحيث يجب “أن نجعل من الاحتجاجات الاجتماعية فعلا اجتماعيا يؤطره عقل عاقل، غير العقل السائد: التقليدي، المسيطر، وهذه مسؤولية الدولة في الدرجة الأولى”.