حسن بويحف
بعيدا عن الصورة المثالية التي يتم تداولها حول الفضاء الزوجي، فهذا الفضاء، مع الأسف، هو “الفضاء المعيشي الأكثر اتساما بالعنف سواء بالنسبة للنساء أو الرجال”. وهذه الخلاصة المريرة والصادمة ليست وليدة انطباعات أو تجريدات ذهنية، بل هي من أخطر ما كشف عنه “البحث الوطني للعنف ضد النساء والرجال لسنة 2019” الذي أنجزته المندوبية السامية للتخطيط، مما يجعل “الفضاء الزوجي” من الفضاءات التي تتطلب عناية كبيرة وقوية فيما يتعلق بجهود محاربة العنف الزوجي بشكل عام، والعنف ضد النساء بشكل خاص، ذلك أن (53٪ من جميع أشكال العنف التي تتعرض لها النساء و39٪ من جميع أشكال العنف لدى الرجال مرتكبة من طرف الشريك (ة) الحميم (ة))، حسب نتائج ذلك البحث.
ولتسليط الضوء بشكل دقيق وعميق على العنف في “الفضاء الزوجي” خصصت المندوبية السامية للتخطيط مذكرة حوله، بناء على نتائج البحث الوطني المشار إليه سابقا، تحت عنوان “تمييز العنف بين النساء والرجال والتصورات الذكورية للعنف”، ونشرتها في موقعها الرسمي بتاريخ 21 أبريل 2021. ورغم أن الرجال أيضا يعانون من العنف الزوجي، كما سبقت الإشارة، فقد اخترنا في هذا المقال التوقف عند “تمثلات الرجال للعنف الزوجي” من زاوية خاصة هي “ضرب الزوجة”، لما لها من دلالات حساسة فيما يتعلق بجهود محاربة العنف ضد النساء. وسنكتفي في ذلك بتسليط الضوء على تمثلات الرجال لمسألة “ضرب الزوجة” من خلال ستة عناصر كبرى، تفسر جانبا مهما من استمرار هذه الظاهرة المشينة، والتي تضع هذا النوع من العنف في “محمية اجتماعية” ما تزال فعالة.
العنصر الأول، ضعف وعي الرجال بالعنف ضد المرأة بشكل عام:
رغم الانتشار الواسع للعنف ضد النساء، حيث أكدت نتائج البحث الوطني حول العنف ضد النساء والرجال لسنة 2019 أن 57٪ من النساء تعرضن لنوع واحد على الأقل من العنف خلال الاثني عشر شهرا السابقة للبحث، أي أزيد من 7,6 مليون امرأة، ورغم كون الرجل هو المصدر الرئيسي للعنف ضد المرأة، فأقل من نصف الذكور يدركون ذلك! حيث ينظر 42٪ من الرجال فقط إلى أن النساء هن الفئة الاجتماعية الأكثر عرضة للعنف. وهذه نسبة ضعيفة تعكس ضعف الوعي وسط الرجال بظاهرة العنف ضد النساء. وقد يفسر هذا، من جهة، بضعف الثقافة الحقوقية التي على أساسها يتم تصنيف الممارسات العنيفة. ومن جهة ثانية، بكون العنف في الثقافة المغربية بشكل عام غير مجرم، إن لم يشكل بعدا من الأبعاد الأساسية المشكل لبعض القيم المجتمعية “الإيجابية”، مثل “الرجولة” و”الحزم” و”جودة التربية” و …
العنصر الثاني، ضعف تمييز الرجال لمختلف أشكال العنف ضد النساء:
وفي هذا المستوى تظهر مفارقة أخرى تعزز ضعف وعي الرجال بظاهرة العنف ضد النساء، حيث أن العنف الجسدي وحده هو الشكل الذي يستطيع معظم الرجال تمييزه من بين الأنواع الأربعة للعنف. وحسب معطيات مذكرة المندوبية السامية للتخطيط، (يتمثل العنف، للوهلة الأولى، لدى ما يقرب من 66٪ من الرجال في شكله الجسدي، ويظهر في شكله النفسي بالنسبة لـ 19٪ فقط، كما يُنظر إليه في شكله الاقتصادي لدى 8٪ وفي شكله الجنسي لدى 5٪ من الرجال). وإذا علمنا، حسب معطيات البحث الوطني الثاني لسنة 2019، أن العنف النفسي هو أكثر أنواع العنف الممارس ضد النساء حيث يمثل 49% من كل أنواع العنف ضد النساء، إضافة إلى تنامي العنف الجنسي بشكل كبير مقارنة مع نتائج البحث الوطني لسنة 2009، فإن جهل معظم الرجال بهذه الأشكال من العنف يعني أنها ستستمر في محاصرة النساء في مختلف مجالات الحياة، وخاصة في “فضاء الزوجية”.
العنصر الثالث، تمثلات الرجال لضرب الزوجة: “الحق في ضرب الزوجة”!
بالرغم من كون 66٪ من الرجال يحصرون العنف ضد النساء في شكله الجسدي، إلا أن تمثلات الرجال لمسألة ضرب الزوجة تطرح مفارقات تتطلب التوقف والتأمل.
قد يستغرب البعض استعمال عبارة “الحق في ضرب الزوجة”! فبالإضافة إلى أنه نقل آمن للعبارة التي اعتمدتها المندوبية السامية للتخطيط، فالأمر يتعلق في العمق بكيف يتمثل الرجال مسألة “ضرب الزوجة” وليس لإضفاء أية شرعية على هذا النوع من العنف. فالمستجوبون عبروا عن آرائهم حول المسألة، وبالتالي عن قناعات فكرية وقيم تضع “ضرب الزوجة” يتأرجح بين “الحق فيه” وبين اعتباره بالعكس انتهاكا لحق الزوجة في حياة بدون عنف.
وبالعودة إلى المعطيات التي أوردتها مذكرة المندوبية السامية للتخطيط في هذا الباب، نجد أن ما يقرب من (ثلثي الرجال (64٪) يرفضون لجوء الزوج إلى العنف ضد شريكته مهما كان السبب. وهذا مهم جدا حين ننظر إلى الجزء المليء من الكأس. ومع ذلك لا بد من استحضار أن الذي يرفض نظريا تعنيف زوجته لأي سبب كان، قد يعنفها فعليا في سياقات معينة.
لكن الوجه الآخر المظلم هو الذي ينبغي الاهتمام به أكثر، حيث كشفت نفس المعطيات أن أزيد من ثلث الرجال يعتقدون بأن لهم “الحق في ضرب الزوجة”! وهنا لابد أن نسجل أن الانتقال بسلوك “ضرب الزوجة” إلى مرتبة “الحق” يعتبر أمرا خطيرا، ذلك أن القيام بما تراه “حقا” لا يستوجب في نظرك المساءلة والعقاب، بل ولا يقبل فيه حتى النقد والمؤاخذة وغير ذلك، وبالتالي فهو “أمر خاص” لا يقبل تدخل “الغير” فيه كيفما كان هذا الغير. وكما هو معلوم فهذا “الحق” يستند إلى رصيد من القيم الدينية والمجتمعية تعطي في محصلتها سلطة للرجل على زوجته “تبيح” له ضربها من باب حقه في ذلك.
إن حضور مثل هذه التمثلات يجعل مسألة محاربة العنف ضد النساء تواجه تحديات كبيرة، خاصة وأنها تهم تصحيح الفهم لبعض المقتضيات الدينية، ومواجهة تمثلات مجتمعية تحط من كرامة المرأة وتجعلها خاضعة للرجل أبا وأخا وزوجا وجارا وصديقا و …
إن أصحاب “الحق في ضرب الزوجة” يستندون إلى “مبررات” عديدة، حيث (صرح أكثر من 25٪ من الرجال بحق الزوج في ضرب / تعنيف زوجته إذا خرجت بدون إذن منه، و15٪ إذا أهملت رعاية الأطفال). وفي نفس الاتجاه (يوافق أكثر من 7٪ على أحقية الزوج في ضرب زوجته إذا رفضت ممارسة الجنس معه، و6٪ إذا أهملت العمل المنزلي و6٪ إذا عارضته أو خالفته في الرأي).
إن من الخطأ الانزلاق إلى مناقشة هذه المبررات، لأن الأصل في العنف هو انتفاء الحق في ممارسته سواء من طرف الزوج أو الزوجة، بل من طرف أي شخص ضد أي شخص آخر. فالمعتقدون في “الحق في ضرب الزوجة” لا يعتقدون في المقابل في “الحق في ضرب الزوج” إذا ما ارتكب أخطاء مثل إهمال الأسرة، وتعاطي المخدرات وغير ذلك، مما يعني أننا لسنا أمام ما قد يُتوهم أنها “مبررات”، بل أمام ثقافة ذكورية ظالمة، على أساسها يرفض المجتمع “ضرب الزوج” ليس لأنه عنف مرفوض بل لأنه يمس بصورة “الرجل”.
العنصر الرابع، “واجب تحمل الزوجة العنف للحفاظ على الأسرة”!
يكشف هذا العنصر عن الطبيعة المعقدة للعنف ضد المرأة بشكل عام، وضد الزوجة بشكل خاص. ذلك أنه يستند إلى شبكة متينة من التمثلات والمبررات، والتصورات، التي تتطلب معالجة عميقة وشاملة. وفي هذا العنصر نجد العنف ضد الزوجة يحاول مناصروه أن يكسبوه الشرعية من قيمة اجتماعية حساسة، وهي قيمة “الحفاظ على الأسرة”.
وبالرجوع إلى معطيات مذكرة المندوبية السامية للتخطيط، نجد أن (40٪ من الرجال يتفق على أن “على المرأة أن تتحمل العنف الذي يمارسه الزوج للحفاظ على استقرار الأسرة”، 15٪ منهم يتفقون بشكل قاطع و25٪ يتفقون إلى حد ما. ويبقى هذا التصور أعلى حدة لدى الرجال دون أي مستوى تعليمي (50٪ مقابل 22٪ من بين الحاصلين على تعليم عالٍ) ولدى الرجال القرويين (48٪ مقابل 36٪ بين الرجال الحضريين) وكبار السن الذين تتراوح أعمارهم بين 60 و74 سنة (46٪ مقابل 37٪ بين البالغين 15 إلى 34 سنة)).
وهنا نجد أن الصورة مقلوبة، حيث أن الأصل في الحفاظ على الأسرة ليس فقط في عدم استعمال العنف، بل في تحريرها من كل أشكاله، وتجاه كل أفرادها، وليس في “واجب” تحمل ذلك العنف من أي طرف فيها. وهذا التمثل لعنف الزوجة مفهوم على اعتبار أن العنف ضد المرأة عموما غير مجرم عند هؤلاء، لذلك فهم غير مستعدين لتغيير تلك التمثلات، والتعامل مع المرأة على أساس واجب احترام الكرامة المتبادل زوجة أو أختا، أو بنتا، أو زميلة في العمل، أو مواطنة في الفضاء العام. فيكون من السهل مطالبة المرأة/ الزوجة بأن تتحمل العنف من مطالبة الرجل/الزوج بالكف فكرا وسلوكا عن العنف ضد النساء.
العنصر الخامس، “العنف المنزلي مسألة خاصة”!
في هذا العنصر، تكشف معطيات مذكرة المندوبية السامية عن أحد أخطر التمثلات الاجتماعية التي توفر حماية اجتماعية فعالة للعنف المنزلي، والذي تكون المرأة في معظمه هي الضحية.
وتفيد تلك المعطيات في هذا الصدد، أن (سبعة رجال من كل عشرة يعتبرون أن العنف المنزلي مسألة خاصة، ويفضل أكثر من ثلاثة من كل عشرة رجال عدم التدخل في حالة العنف بين زوجين .. واتفق 42٪ من المستجوبين (51٪ في الوسط القروي)، بشكل قاطع، على أن العنف بين الزوجين هو مسألة خاصة لا ينبغي للزوجة الإفصاح عنها بأي شكل من الأشكال، بالإضافة إلى 28٪ الذين اتفقوا إلى حد ما على ذلك. أي ما يمثل مجموع 70٪ من الرجال الذين يؤيدون هذه الفكرة، 76٪ في الوسط القروي و66٪ في الوسط الحضري).
وكما هو الشأن فيما يتعلق بمبررات “الحفاظ على الأسرة”، نجد هنا الدفع بكون الأسرة عالم خاص، لا ينبغي على أحد التدخل فيه حين يتعلق الأمر بالعنف الأسري. بل حسب المعطيات السابقة ستكون الزوجة قد ارتكبت “خطيئة اجتماعية” إذا ما أفصحت عن تعرضها للعنف! ولا يقول أحد مثل هذا الكلام حين يتعلق الأمر بجريمة قتل مثلا، لأن الأمر كله يدور حول تمثلات المجتمع للعنف ضد النساء، فهو أمر لا يرتقي في نظر هؤلاء إلى مستوى “الجريمة”.
وتؤكد هذه المعطيات حجم التحديات التي تواجه جهود محاربة العنف الأسري بشكل عام والعنف ضد الزوجات بشكل خاص.
والوجه الآخر لهذا التصور للعنف الممارس على الزوجة، نجده في “ردود أفعال الرجال في حالة رؤيتهم لرجل يضرب زوجته”. حيث صرح أكثر من 36٪ منهم بأنهم “لن يفعلوا شيئًا” معتبرين أن هذا الوضع مسألة خاصة للمعنيين بالأمر. وتبقى هذه النسبة أعلى في الوسط الحضري (40٪) وبين العزاب (41٪).
فكون المُعَنَّفة زوجة يجعل العنف ضدها من طرف الزوج مستساغا، بل محميا اجتماعيا باعتبارات تجعله من خصوصيات الأسرة التي لا ينبغي لأحد التدخل فيها.
العنصر السادس، الجهل بالقانون المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء
إذا كان “ضرب الزوجة” من أخطر صور العنف ضدها، والذي يواصل الانتعاش في “محمية من التمثلات الاجتماعية للعنف”، والتي أجملنا أهم “تحصيناتها” في العناصر الخمسة السابقة، فإن أخطر ما كشفت عنه مذكرة المندوبية السامية للتخطيط هو الجهل الواسع الانتشار بين الرجال بأحد أهم القوانين ذات الصلة بالعنف ضد المرأة. حيث أن أكثر من نصف الرجال (57٪) ليسوا على علم بوجود القانون 103.13 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء، والذي دخل حيز التنفيذ مند 13 شتنبر 2018!
وبالرجوع إلى “التقرير السنوي لرئاسة النيابة العامة، حول تنفيذ السياسة الجنائية وسير النيابة العامة”، الصادر بتاريخ 25 دجنبر 2020، نجده يؤكد ارتفاع قضايا العنف ضد المرأة المسجلة سنة 2019 مقارنة مع سنة 2018، وذلك بزيادة 1920 قضية، أي بنسبة ارتفاع تتجاوز 11 %، مؤكدا أنه إذا كانت هذه الزيادة قد همت أغلب الجنايات والجنح التي ترتكب ضد المرأة، فإنها تظهر بشكل جلي في الجنح المستجدة التي تضمنها القانون رقم 103.13 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء، موضحا أن جنحة الطرد من بيت الزوجية مثلا سجلت 629 قضية سنة 2019 مقارنة ب 360 قضية تم تسجيلها سنة 2018، أي بزيادة تقدر بنسبة 74 %! وأكد نفس التقرير أن نسبة القضايا المسجلة برسم الجرائم التي استحدثها القانون المذكور توازي 38,16 % من مجموع قضايا العنف ضد المرأة.
خاتمة:
يمكن في ختام هذا المقال الوقوف عند استنتاج رئيسي، يتعلق بكون “ضرب الزوجة”، وإن كان يندرج ضمن العنف ضد النساء بشكل عام، إلا أن له خصوصية تجعله من أخطر أنواع العنف التي تتجاوز تداعياته الضحية إلى الأسرة والمجتمع. ذلك أنه، من جهة أولى، يصدر عن شريك الحياة المفروض أن يجمعها به الحب والتقدير والمعاملة الحسنة القائمة على حفظ الكرامة الإنسانية. ومن جهة ثانية، فهو يتم في الوسط الزوجي المفروض أن يخلو من جميع أنواع العنف ليكون أهلا لإعداد النشء الصالح والسوي. ومن جهة ثالثة لكون العنف الصادر عن الأزواج ما يزال يتصدر قائمة العنف المبلغ به والموجه ضد النساء، فتقرير النيابة العامة المشار إليه سابقا، يسجل أن الأزواج يتصدرون لائحة المتابعين في الجنايات والجنح المرتكبة ضد المرأة حسب درجة القرابة معها، وذلك بنسبة تقارب 57%، يليهم الغرباء عن المرأة، بنسبة تزيد عن 38%، فيما 5% المتبقية يشترك فيها دووا قربتها من أب وأم وأخ وأخت، وخدم المنازل وأرباب العمل. وهذا يتناغم مع نتائج البحث الوطني الثاني للعنف ضد النساء والرجال لسنة 2019، والذي أكد أن العنف الصادر عن الأزواج ضد زوجاتهم يمثل أزيد من 53% من كل أشكال العنف الذي تعرضت له النساء.
إن ما سبق يؤكد أن الرجل، وخاصة الزوج، ما يزال يشكل المصدر الرئيسي للعنف ضد المرأة، مما يتطلب المزيد من استهدافه المتواصل والفعال. وأن “ضرب الزوجة”، بصفته يشكل العنف الذي يميزه الرجال بسهولة (العنف الجسدي)، ما يزال مستشريا بحكم اعتبارات تتعلق بالقيم المجتمعية وسوء فهم القيم الدينية، وتمثلات تشكل “محمية اجتماعية فعالة”، وأن معظم الرجال جاهلون بوجود القانون المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء. مما يتطلب تظافر جهود مختلف القطاعات الحكومية ذات الصلة، والمؤسسة الدينية والتعليمية والإعلامية والمجتمع المدني، في تعزيز الوعي الصحي والسليم، الحقوقي والقانوني بالخصوص، في مجال العلاقات الزوجية.
مصادر ومراجع:
- “البحث الوطني للعنف ضد النساء والرجال لسنة 2019”.
- “التقرير السنوي لرئاسة النيابة العامة، حول تنفيذ السياسة الجنائية وسير النيابة العامة”، الصادر بتاريخ 25 دجنبر 2020.
- مذكرة المندوبية السامية للتخطيط بعنوان “تمييز العنف بين النساء والرجال والتصورات الذكورية للعنف”، ونشرتها في موقعها الرسمي بتاريخ 21 أبريل 2021.