الشعار الشهير “الوقاية خير من العلاج” يلخص قاعدة شاملة في الحياة تعط الأولوية للمعايير الصحية في مختلف جوانب الحياة. وكما تدل عبارتها على ذلك فهي تتعلق بالأصحاء وترشدهم إلى اليقظة للحفاظ على صحتهم وتجنب الوقوع في الأمراض.
لكن قاعدة أخرى لا تقل أهمية عن السابقة، وتتعلق في هذه الحالة بالمرضى أو المحتمل إصابتهم بالمرض، تقول: “التشخيص المبكر خطوة مهمة في العلاج”.
وتفيد القاعدة الطبية أنه كلما كان العلاج مبكرا كلما كانت السيطرة على المرض فعالة وناجعة. ووفي إطار هذه القاعدة تظهر أهمية التشخيص المبكر، والذي يكشف عن المرض في بداياته مما يسمح بالعلاج المبكر.
ويقول د. هاني رمزي عوض، في مقال له في جريدة “الشرق الأوسط”، إنه من المعروف أن التشخيص المبكر لأي مرض يعُد جزءاً مهماً من العلاج، وكلما كان العلاج مبكراً، كانت فرص السيطرة على الأعراض كبيرة، وقلّت احتمالات التعرض للمضاعفات الخطرة الناتجة عن التأخر في العلاج.
ومن الأمراض التي يرى استشاري طب الأطفال أهمية تشخيصها مبكرا مرض «الصرع (epilepsy)» لدى الأطفال. ويعرف د. هاني هذا المرض بكونه من أشهر الأمراض المزمنة المتعلقة بالجهاز العصبي نتيجة وجود بؤر صرعية في المخ ترسل شحنات عصبية تتسبب في حدوث نوبات انقباضات متتالية في عضلة أو مجموعة عضلات من الجسم، وفي بعض الأحيان جميع عضلات الجسم.
ولأهمية موضوع التشخيص المبكر لمرض الصرع لدى الأطفال، وخاصة في المرحلة الجينية، نورد نص مقال د. هاني كما جاء في جريدة “الشرق الأوسط”.
التشخيص الجيني للصرع
حتى الآن تبدأ وسائل التشخيص المعتادة للمرض عبر التاريخ المرضي لحدوث النوبات والحالة الإكلينكية ونتائج أشعة الرنين المغناطيسي. والتشخيص الأكثر دقة هو عمل “رسم المخ EEG”.
وأحدث دراسة تناولت المرض وطرق تشخيصه وعلاجه ونُشرت في مجلة «لانسيت لطب الأعصاب (Lancet Neurology)» في منتصف شهر أغسطس (آب) من العام الحالي، أشارت إلى احتمالية أن يلعب ترتيب «تسلسل الجينوم السريع (genome sequencing rapid)» دوراً كبيراً في التشخيص المبكر لمرض الصرع لدى الأطفال في المستقبل القريب، معتمدة على التسلسل الجيني للآباء والأبناء. وحاول العلماء عمل الدراسة على مناطق متفرقة من العالم حتى تكون مقياساً حقيقياً للنتائج وذلك في 4 مراكز مختلفة؛ جميعها تقدم الرعاية المختصة لهؤلاء الأطفال في كندا والمملكة المتحدة وأستراليا والولايات المتحدة الأميركية.
من المعروف أن العامل الجيني يعُد أساسياً في معظم حالات الإصابة بالصرع لدى الأطفال؛ خصوصاً في العمر المبكر؛ سواء عن طريق الوراثة من آباء مصابين بالمرض، وحدوث طفرة جينية لدى أطفال أصحاء.
وفي حالة التمكن من التشخيص السريع بناء على التسلسل الجيني، فإن ذلك سوف يؤدي بالطبع إلى التعامل مع المرض بشكل مبكر، مما يحقق نتائج أفضل للطفل. وقد أظهرت الدراسات السابقة الفائدة الكبيرة للتشخيص المبني على التسلسل الجيني لدى الرضع. وتعني عبارة «التسلسل الجيني» البحث عن أي طفرة جينية تحدث في خلية تكون مصابة بالفعل بمرض معين.
تحدث النوبات لدى مرضى الصرع من الأطفال على شكل نوبات بسيطة خلافاً لما يحدث لدى البالغين، بمعنى أن التشنجات في الأغلب لا تشمل جميع العضلات الإرادية في الجسم، ولكن تحدث في مجموعة محدودة من العضلات في الذراع أو الساق أو الظهر، وفي بعض الأحيان تكون مجرد حركة العيون لأعلى. وهذه النوبات في الأغلب تستمر لفترة بسيطة وتتوقف من تلقاء نفسها، ولكن لدى بعض الأطفال؛ خصوصاً مع عدم تناول العلاج، تكون هذه النوبات عنيفة مثل البالغين.
في بعض الأحيان يمكن أن تكون النوبات الطويلة التي لم تعالج خطرة وتؤثر على نمو الطفل، لذلك من المهم تشخيص الحالة وتحديد السبب مبكراً؛ لأن ذلك يساعد في وجود خيارات عدة للعلاج مثل تغييرات الدواء التي تؤدي إلى السيطرة على النوبات.
رصد مبكر
ولكن المشكلة أن التشخيص عن طريق الاختبار الجيني الحالي يستغرق فترات طويلة تصل إلى أشهر عدة، وهو الأمر الذي يؤدي إلى تأخر التوصل إلى العلاج الأمثل. ولكن الاختبار الجيني السريع يمكنه فحص جميع الجينات الموجودة في الحمض النووي والتوصل إلى تشخيص المرض في فترة بسيطة؛ مما يتيح سرعة العلاج.
قام الباحثون بجمع عينات دم من 100 من الرضع من الدول الأربع الذين يعانون من بداية ظهور مرض الصرع من دون سبب واضح وعمرهم أقل من عام واحد، وكانت نسبة الذكور 59 في المائة والإناث 41 في المائة ومعظمهم من الأصول البيضاء. وكذلك جُمعت عينات دم من آبائهم المصابين بالمرض نفسه (وراثي المنشأ) لتحليل الحمض النووي (DNA) لكل منهم، وذلك باستخدام تقنية تسلسل الجينوم السريع حتى يمكن تحديد التغيرات الجينية التي قد تسبب نوباتهم.
واستبعد الباحثون الرضع الذين يعانون من الصرع المكتسب؛ لأنه من غير المرجح أن تكون لديهم مسببات وراثية، وتتبعوا تسلسل الجينوم الثلاثي (الطفل والأب والأم) عندما كان الحمض النووي من كلا الوالدين متاحاً، وتسلسل الجينوم الثنائي عندما لم يكن أحد الوالدين متاحاً.
أوضحت الدراسة أن استخدام الطريقة الجديدة للكشف السريع «rGS» ساهم في زيادة معدلات التشخيص بنسبة بلغت 43 في المائة، مما أثر بشكل كبير على التشخيص في نحو 90 في المائة من تلك الحالات. وتغيرت خطط العلاج لنسبة من الأطفال بلغت 56 في المائة تبعاً لذلك، وساهمت الطريقة الجديدة في توقع التطور الأفضل لبعض الحالات التي يمكن أن تتوقف عن تناول الأدوية المضادة للتشنجات (antiseizure medication) في المستقبل بعد السيطرة بشكل كامل على الأعراض، وأيضاً توقعت التطور الأسوأ لبعض الحالات التي يمكن ألا تستجيب للأدوية المضادة للتشنجات في المستقبل، مما يؤدي إلى زيادة احتمالات تأخر النمو، وفي بعض الأحيان حدوث إعاقات ذهنية، وفي كلتا الحالتين كانت هذه التوقعات مهمة جداً في العلاج.
كما وجد العلماء أيضاً أن طريقة التشخيص السريع التي فحصت الجينات الخاصة بالأب والأم والطفل (التسلسل الثلاثي) ساعدت بشكل كبير في التنبؤ باحتمالات زيادة خطر الإصابة بأمراض وراثية معينة عبر رصد الخلل في التركيبة الجينية الخاصة بهم، مما يجعلهم أكثر عرضة للإصابة من غيرهم، وهو الأمر الذي يمكن عدّه وقايةً مبكرةً من هذه الأمراض في حال حدوث تعديلات جينية لهؤلاء الأطفال.
المصدر: “الشرق الأوسط”