قدم أساتذة جامعيون وباحثون مشاركون في الندوة الوطنية المخلدة للذكرى الستين لإحداث البرلمان المغربي التي افتتحت اشغالها يوم الأربعاء 17 يناير 2024 بمجلس النواب، قراءات متقاطعة حول مراحل التطور الدستوري لبنية ووظائف البرلمان، مسلطين الضوء بشكل خاص على نظام الثنائية البرلمانية والعلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وآلية تقييم السياسات العمومية.
وناقش هؤلاء الأكاديميون في الجلسة الأولى للندوة، خصوصية النظام البرلماني في ضوء مقتضيات الوثيقة الدستورية، باعتباره يرتكز على الثنائية البرلمانية وعلى مأسسة العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية بالإضافة إلى تعزيز الديمقراطية التشاركية كمجال جديد لتعزيز المبادرات التشريعية وتقوية الثقة في المؤسسات.
وفي هذا السياق اعتبر الأكاديمي والرئيس السابق للمجلس الدستوري محمد أشركي، في مداخلة له حول الثنائية المجلسية أن “نظام الثنائية البرلمانية بالمغرب يتميز بالتفرد لأنه يتيح تمثيلية أوسع للمجتمع للتعبير عن التعددية”، مشيرا إلى أن الدستور ينص على “تمثيل الجهات والجماعات الترابية الأخرى والغرف المهنية ومنظمات المشغلين وممثلي المأجورين (..) كما هو مشاع في العديد من مجالس الشيوخ”.
وسجل أشركي، أن هذه التمثيلية “نادرة” وتوجد فقط في دستور دولتي إيرلندا وسلوفينيا، إذ تمثَّل الجامعات في مجلس الشيوخ الإيرلندي، فيما يضم مجلس سلوفينيا الوطني 40 عضوا يمثلون المشغلين والمأجورين وجماعات الأنشطة الاقتصادية وغير الاقتصادية، مبرزا أن هذا الأخير يبقى قريبا من مجلس المستشارين المغربي.
وتابع أن نظام الثنائية البرلمانية بالمغرب “متوازن” داخليا وخارجيا، وهو ما تعكسه تركيبة مجلس المستشارين، إذ أن ثلاثة أخماس من أعضائه ينتخبون من ممثلي مجالس الجهات والجماعات الترابية الأخرى والثلثين الباقين لممثلي الغرف المهني ومنظمات المشغلين، وهو ما “يساهم في تعزيز ممارسة البرلمان لوظائفه وتعزيز جودة الممارسة الديمقراطية”.
وتساءل أشركي، عن مستقبل الثنائية البرلمانية في المغرب، داعيا إلى رصد الممارسة التي تنفي اعتبار نظام الثنائية البرلماني يبطئ التشريع، في الوقت الذي يؤكد فيه الباحثون أن “ما تشكوه القوانين هو التسرع وليس البطء، لأن التسرع قد يؤدي إلى تطبيق للقانون بشكل غير صحيح”، مضيفا أن “الزمن يجب أن يكون في خدمة جودة التشريع وليس العكس”.
وردا على اعتبار أن نظام الثنائية يؤدي إلى رفع الكلفة المالية للدولة، قال الأكاديمي إنه “لا يمكن بناء تقييم المؤسسات على اعتبارات محاسبية”، بل يجب “الحديث عن المصلحة العامة والجدوى التي تقدمها المؤسسة”، مضيفا أنه “إذا أنتجنا قوانين جيدة فتطبيقها سيكلف أقل، والعكس صحيح”، لذلك “من الأحسن أن ننفق على الجودة”.
من جانبه، تطرق أستاذ القانون العام بجامعة محمد الخامس، عبد الحفيظ أدمينو، إلى أبرز سمات تطور العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، لاسيما على مستوى اقتسام سلطة المبادرة التشريعية الذي أنتجته الممارسة السياسية المغربية.
وذكر أدمينو، أن القواعد الدستورية أفرزت إقرارَ نوع من التلازم وتقوية الارتباط بين الأغلبية الحكومية والبرلمانية، كما أن الدساتير توجهت نحو تقوية المأسسة بين الحكومة والبرلمان “لاسيما من خلال الوزارة المكلفة بالعلاقات مع البرلمان والتي يرتكز دورها على تسهيل الحوار بين الجهازين التنفيذي والتشريعي”.
وأوضح أدمينو، أن هذه الوزارة لعبت دورا مهما في تمثيل الحكومة في البرلمان وفي التقريب بينهما، معتبرا أنها “وظيفة تتأثر بأغلبية مريحة من عدمها، على اعتبار أن الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان يكون في أوضاع صعبة عندما لا يتحقق الدمج الوظيفي والعضوي بين الأغلبية البرلمانية والأغلبية الحكومية”.
كما لفت الأستاذ الجامعي إلى إقرار قانون تنظيمي خاص بالحكومة 65.13 تضمن التزامات على الحكومة الاضطلاع بها علاقة بالمؤسسة التشريعية، والذي عزز من المأسسة ونقل مستوى الممارسة إلى مستوى النص القانوني، بالإضافة إلى إقرار نظام خاص بالمعارضة، إذ أن “التطور البرلماني المغربي أفرز الحاجة إلى تمتيع المعارضة البرلمانية بوضع قانوني يُمكّنها من ممارسة حقوقها”.
وفي مداخلة أخرى لأستاذ العلوم السياسية محمد الطوزي، حول تقييم السياسات العمومية وسؤال نجاعة الفعل العمومي، تناول الجامعي الحقل المفاهيمي المؤسس للتقييم، مشددا على تحديد الفرق بين التقويم والمراقبة والمساءلة والمحاسبة.
وأشار الطوزي، إلى أنه بالعودة إلى الأدبيات المُؤسسة لمفهوم التقييم، يمكن القول إن تقرير الخمسينية أرّخ لهذا المفهوم و”إن لم يستخدم مناهج التقييم (..) لكه كان شفافا”، مضيفا أنه “طرح أفقا لتطوير السياسات العمومية في المغرب”.
مقابل ذلك، اعتبر الأكاديمي أن معيقات التقييم باعتبارها “عملية للتتبع”، ترتبط بجوانب ثقافية ذات صلة بتحديد المسؤوليات في الثقافة السياسية، مبرزا أن “لا يُؤسّسُ للتقويم كممارسة تواكب السياسات العمومية إلا إذا كان هناك مجال للفاعل السياسي والترابي يقبل المجازفة/مواجهة المخاطر”، وهو “ما شخصه النموذج التنموي الجديد فيما يتعلق بنجاعة السياسات العمومية”
كما أكد على أهمية جودة المعطيات وتحيينها من أجل متابعة وتقويم السياسات العمومية من “المحطة صفر”، لبلوغ نتائج ذات جودة.
من جهته، أكد الأستاذ الجامعي جواد النوحي، في مداخلة له حول “السياسات العامة والسياسات العمومية”، أن وظيفة تقييم السياسات العمومية تجد “زخما نظريا كبيرا”، ولذلك فإن “ممارسة وظيفة التقييم تحتاج إلى تبني نمط برلماني مغربي يعتمده البرلمان”.
وتوقف النوحي، عند التحديات التي تواجه البرلمان فيما يتعلق بأثر آليات الرقابة على فعل صناعة السياسات العمومية، “لكي يصبح البرلمان المغربي المنتج والمقيم الفعلي والمتميز للسياسات العمومية، على اعتبار أن هذه الوظيفة لم تعد حصرا في ضوء الدستور على المؤسسة التشريعية، ولكن انفتحت على فاعلين آخرين مثل هيئات الحكامة، مما يطرح سؤال “تميز البرلمان”.
وتابع الأكاديمي أنه من الضروري أن تكون تقارير البرلمان ذات جاذبية في ضوء زخم تقارير العديد من الفاعلين في مجال تقييم السياسات العمومية، مؤكدا على أهمية مؤشر الفعالية في التقييم والذي يرتكز على “إنجاز السياسة العمومية في الجدول الزمني المحدد”.
في سياق ذي صلة، أكد النوحي، على ضرورة تجاوز الالتباس الذي يطرحه التقييم في تقاربه مع مفهوم المراقبة، داعيا إلى ضرورة فصل التقييم عن التشريع والمراقبة في النظام الداخلي لمجلسي البرلمان، موضحا أن برلمانات اليوم “هي برلمانات مأسسة تقييم السياسات العمومية”.
وتواصلت أشغال الندوة الوطنية المخلدة لذكرى الستين لإحداث البرلمان المغربي بجلسة ثانية ناقشت العلاقة بين البرلمان والممارسة الديمقراطية إلى جانب البرلمان المنفتح والتحديات المرتبطة بالعمل البرلماني.
كما تم بهذه المناسبة تكريم البرلمانيتين السابقتين بديعة الصقلي ولطيفة بناني سميرس، باعتبارهما أول سيدتين تم انتخابهما في البرلمان المغربي في تسعينيات القرن الماضي.
ومع