يمكن القول إن التسرع، بنَفَس المعارضة، هو الظاهرة المستحكمة في كثير من ردود الفعل مع ما تم الإعلان عنه من المضامين الرئيسية لمقترحات مراجعة مدونة الأسرة، وخاصة في أوساط النخبة المغربية.
وهذا التسرع في التعامل مع المضامين الأولية لمشروع تعديل المدونة، أنتج أحكاما واستنتاجات كرست القلق والمخاوف التي زرعتها حملات “الهزل الأسود” والتنمر بالتعديلات في مواقع التواصل الاجتماعي في نفوس المغاربة. وهو أمر مرفوض وغير معقول بالمطلق.
يمكن الجزم بكون أغلب نقاد المضامين الأولية لتعديل المدونة تعاملوا معها وكأنها قوانين قد اكتملت وأصبحت جاهزة للتطبيق. وسمحوا لأنفسهم باستكمال الباقي من عمل التشريع باستنتاج قواعد قانونية مفترضة ومناقشتها وانتقادها والرد عليها و …
إن عملية تعديل المدونة تمر من مراحل يتبلور عبرها النص التشريعي، ونحن ما نزال في مرحلة ما قبل وضع مشروع القانون التعديلي من طرف الحكومة الذي سوف تحيله على البرلمان، والذي يفترض فيه أن يكون شاملا على المستوى الأفقي، بطرح جميع المقتضيات التي تشكل المدونة المعدلة، وأن يكون مكتملا على المستوى العمودي بإعطاء التفاصيل الكاملة والضرورية في كل قضية ومسألة.
والمضامين التي تبلورت إلى حدود الساعة في هذه المرحلة لا يمكن مناقشتها بشكل علمي رصين سوى في مستواها العام الذي هي فيه، ولا يمكن محاكمتها إلى إجراءات مُفترضة ومُتخيلة، كما هو الشأن في أغلب النقد الموجه إليها حاليا.
وسف نتوقف عند قضيتين تعتبران من أكثر ما تعرض للنقد والتنمر والهزل الأسود، وهما التعدد وبيت الزوجية.
“بيت الزوجية”
باستحضار الملاحظات السابقة، فالمنهج السليم يفرض الانطلاق أولا مما طرح من مضامين تعديلية. فماذا أعلنت الجهة المشرفة على التعديل بشأن بيت الزوجية؟
في كلمة وزير الأوقاف في الندوة التي نظمتها الحكومة لإخبار الرأي العام بخلاصات نهاية المسلسل التشاوري، والذي عرض حصيلة عمل المجلس العلمي الأعلى، جاء ما يلي:
في موضوع المسألة: “العمري الإجبارية للسكنى للزوج الباقي حيا”. وفي “تلخيص الإجابة” جاء ما يلي: “جواب العلماء يستجيب للمطلوب مع اقتراح استعمال مصطلح “إيقاف السكنى” بدلا لعمري الإجبارية حفاظا على المصطلحات الشرعية.
وفي كلمة وزير العدل في نفس الندوة، جاء المضمون التعديلي المقترح كما يلي: “حق الزوج أو الزوجة بالاحتفاظ ببيت الزوجية، في حالة وفاة الزوج الآخر، وفق شروط يحددها القانون”.
والذين انتقدوا هذا النص بتسرع، لم ينتبهوا إلى أمور. أولا، أنه لا يتحدث عن وفاة الرجل بل أحد الزوجين، لذلك تجد أغلبهم يتحدث عن أن المدونة تتجه نحو توريث الزوجة بيت الزوجية، وهذا منكر وزور! وثانيا، لا يحدد المضمون مصير بيت الزوجية من حيث الإرث، بل يربطه بعبارة “وفق شروط يحددها القانون”.
وكثير من النقاد، بمن فيهم عالم الأصول الدكتور أحمد الريسوني، الذي علق على ذلك النص بالقول إنه “كلام غريب ليس فيه رائحة الفقه ولا رائحة القانون”! قفزوا على عبارة (وفق شروط يحددها القانون).
والعلامة الريسوني كان رجل قانون أيضا قبل أن يكون عالم مقاصد، وسلسلة الأسئلة والمخاوف التي طرحها خاصة حول كلمة “الاحتفاظ” لا ينبغي أن يطرحها للاعتراض على النص المطروح في هذه المرحلة وقبل التفصيل في “الشروط القانونية” التي تحكم مصير بيت الزوجية، بل كان عليه أن يستبق بها الاحتمالات الممكن أن يتجه إليها المشرع ليساهم في ترشيده من الناحية الشرعية، فيبن الممكن من غير الممكن شرعا. فبذل أن تكون مساهمته بنائية وإرشادية تحولت إلى نوع من “الكلاش” المتداول على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تساهم في تغذية الإحساس بالخوف والقلق.
والملاحظات التي يمكن التوقف عندها في هذه المسألة، نجملها في الأمور التالي:
التوجه الرسمي العام المعلن حتى اليوم في مسألة مصير بيت الزوجية لا يتسع لكل ما قيل حول حرمان أي أحد من الورثة من حقه في الإرث في مزل الزوجية. بل الذي يفهم من النص المتعلق بهذه المسألة هو أن هذا البيت لا يدخل بشكل تلقائي مجال تقاسم الإرث بعد وفاة أحد الزوجين، بل تحكمه شروط قانونية تجعله في وضعية خاصة يتطلبها الوضع الجديد الناتج عن وفاة المتوفى.
خلاف التوجه العام الذي سار فيه نقاد النص، فهذا الأخير لا يخص بالموت الرجل ويخص بالاحتفاظ ببيت الزوجية المرأة. بل يتحدث عن أحد الأزواج وعن الزوج الحي. والغريب أن “الذكورية” قد أعمت الكثيرين، وجعلت النص يعني فقط هلاك الرجل واحتفاظ المرأة ببيت الزوجية.
إن بيت الزوجية، بشكل عام، قد يكون مملوكا للرجل، كما يمكن أن يكون مملوكا للمرأة، كما يمكن أن تكون ملكيته مشتركة بينهما معا. كما أن الموت قد يأخذ الرجل أو يأخذ المرأة أو كلاهما.
وهكذا فالاحتفاظ ببيت الزوجية لا يخص المرأة دون الرجل، بل يتعلق بوضع الأسرة بعد وفاة المتوفى. وهذا الوضع هو الذي سوف تنصب عليه الشروط القانونية التي أشار إليه النص ب”وفق شروط يحددها القانون”.
والشروط الjي سيحددها القانون ينبغي أن تكون موافقة للشريعة وخاصة قاعدة “لا أحل حراما ولا أحرم حلالا”.
وأهم شرط ينبغي أن يضبط هذه المسألة هو أن “الاحتفاظ” ببيت الزوجية لا ينبغي أن يكون على وجه التملك النهائي، بل على وجه الاستفادة التي اقتضتها المصلحة التي فرضتها وضعية الأسرة بعد وفاة أحد الزوجين، والتي تتطلب توفي أحد أبرز العوامل في استقرارها ألا وهو السكن. وقد لا يحتاج الزوج الحي للاحتفاظ ببيت الزوجية كاملا أو جزئيا، والتقدير ينبغي أن يكون للقاضي، لينتقل البيت في تلك الحالة بشكل تلقائي إلى وضعه القابل للقسمة بين الورثة.
وهذا ما يفهم من المصطلح الذي اقترحه المجلس العلمي: “إيقاف السكنى”، وهو أن يكون البيت موقوفا على الزوج الحي يستفيد منه وفق ضوابط قانونية يضعها المشرع.
وكما هو معلوم من الواقع بالضرورة، فكثيرا ما تهتز الأسر اجتماعيا بمجرد وفاة أحد الزوجين ليجد الأبناء مع الزوج الحي أنفسهم معرضين للتشريد جراء إخضاع بيت الزوجية للقسمة بين الورثة.
وهنا يمكن أن نتطفل على فقه الأصول لنستحضر قاعدة فقهية شهيرة وهي أن “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح”. وفي الحالة التي نناقشها فهناك تعارض قد يحدث بين المفاسد المتمثلة في تهديد الأبناء والزوج الحي معا بالتشرد والعنت جراء فقدان السكن، وبين مصلحة الورثة في الاستفادة الشرعية من حقهم في الإرث، والتي ينبغي للشروط التي سيحددها القانون ألا تحرمهم منها بشكل نهائي.
وإذا وازنا بين المفاسد التي يمكن أن تلحق الأسرة بعد وفاة أحد الزوجين بضرر وقف استفادة الورثة أو بعضهم من حقهم في اقتسام بيت الزوجية سنجد أن الضرر الأول أقوى وأعظم لأن طبيعته مادية قاهرة وناتج عن الوفاة مباشرة ويعرض الأسرة للتشرد والعنت، أما ضرر الورثة بوقف استفادتهم من الإرث فهو ضرر معنوي أكثر منه مادي، ويقاس حجمه على ضوء الشروط التي سوف يضعها القانون لتنظيم وضعية بيت الزوجية.
إن الشروط التي سوف يضعها القانون ينبغي ألا تسقط إرادة الورثة بشكل نهائي، بل ينبغي، بصفتهم ورثة شرعيين، إيجاد صيغ يكون الورثة مشاركين في بلورتها على أساس التضامن الأسري مع أسرة الهالك وأبنائه. وهذا بعد يمكن أن يبدع فيه المشرع المغربي أشكالا من التعامل والتدبير يقلل من وقع القرار ويجعله في إطار من التراضي التضامني وليس في إطار يجعل الورثة يحسون بأنهم عرضة الغصب باسم القانون ضد مصالحهم الشرعية.
إننا أمام قضايا شائكة ومعقدة، والخبراء والفقهاء وحدهم من يستطيعون التوسع في مثل هذه الأمور وإيجاد بدائل مرنة ومناسبة، ومتوافقة مع الشريعة الإسلامية.
إن ما سبق يبين أن أبواب تحويل قضية مصير بيت الزوجية من قضية تنازع وصراع إلى قضية توافق في إطار يوافق الشريعة ممكن جدا، إذا تخلينا عن ردود الفعل المستعجلة، وتعاملنا مع النص على أنه برعوم تشريع في المسألة، وأن بإمكاننا جميعا المساهمة في تنميته وتوجيهه الوجهة السليمة.
إن المطلوب من الخبراء والفقهاء والباحثين والمهتمين، ليس مجاراة رواد التواصل الاجتماعي في إنتاج الإثارة، بل القيام بعمل استباقي لعملية التشريع بتشوير طريقها من الناحية الشرعية والمجتمعية، باقتراح الحلول والتنبيه إلى الانزلاقات الممكنة، وإعطاء الحكم الشرعي فيها، وبذلك نساهم بشكل إيجابي وفعال في ترشيد وإغناء ورش تعديل المدونة، وفي بناء رأي عام سليم ومنتبه، بدل تعزيز الخوف والشكوك حوله.
يتبع في حلقة مقبلة، بحول الله.