بقلم: نوالدين البركاني*
في زمنٍ تُصاغ فيه العقول عبر مقاطع لا تتجاوز بضع ثوانٍ، ويُعاد تشكيل الوعي الجمعي من خلال خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي، يصبح الحديث عن دور النخب المثقفة من مفكرين، باحثين، وأطرٍ أكاديمية وإدارية، أمرًا لا يحتمل التأجيل. لقد باتت منصات كـ”تيك توك” تسرق يوميًا مئات الآلاف من ساعات شبابنا، لا لغايات التعلم أو الارتقاء، بل لتمرير صورٍ مشوهة، وسلوكيات منحطة، ولغة ساقطة تحوّل الذوق العام إلى مادة للتندر، وتدفع تدريجيًا بالقيم نحو حافة الانهيار.
إن الفضاء لا يقبل الفراغ. وحين تنسحب النخب الفكرية من ساحة التوجيه والنقاش، فإن الفرصة تُمنح لمن لا يملك من الرصيد سوى اللهو والعبث، ليتحول إلى “صانع رأي”، و”مؤثر”، بل و”نموذج يُحتذى به”. فكم من شابٍ اليوم يقتدي بشخصية فارغة تروج للعنف أو الانحلال أو السخرية من القيم؟ وكم من مراهق أصبح يعتبر أن السبّ والشتائم وسيلة للشهرة والنجاح؟
غياب النخب عن هذه الساحات ـ خصوصًا الرقمية منها ـ يجعل الشباب فريسة سهلة للأفكار السطحية والسلوكيات المريضة التي يتم تضخيمها والترويج لها على أنها “حرية” أو “إبداع”.
ليست مهمة المفكر أن يظل حبيس المكاتب والندوات النخبوية. بل إن مسؤوليته تزداد في زمن الفوضى، حيث يصبح “الظهور” و”التفاعل” و”التواصل المباشر” مع الناس ضرورة لا ترفًا. يجب أن يتحول المفكر إلى منارة رقمية، يُنتج محتوى يُنافس في جودته وسلاسته ما يُبثّ عبر “تيك توك” و”إنستغرام” و”يوتيوب”.
لماذا لا نرى اليوم مختصًا في علم الاجتماع يشرح ببساطة مفهوم “الهشاشة القيمية” على شكل فيديو قصير؟ لماذا لا نتابع أستاذًا جامعيًا في الاقتصاد يُبسّط المفاهيم المالية للشباب بدل تركهم عرضة للنصب باسم “الربح السريع” و”الاستثمار الرقمي”؟
أمثلة حية لواقع مقلق :
– فتاة تبلغ من العمر 16 سنة، تحقق ملايين المشاهدات على “تيك توك” فقط لأنها تروج لمحتوى غير أخلاقي، بينما كاتب ومفكر نشر مقالًا جادًا لا تتجاوز مشاهداته 300.
– شاب يتحدث بطلاقة عن التفاهة والعبث، فيصبح في نظر متابعيه “فيلسوفًا معاصرًا”، بينما خريج فلسفة لا يجد منبرًا لتوصيل فكره.
– مؤسسات تعليمية وجامعية لا تحفز الأساتذة على المشاركة في الحياة الرقمية، في مقابل دعم غير مباشر لمؤثرين يروجون للمظاهر على حساب الجوهر.
لكي نعيد الاعتبار لصناعة الرأي المسؤول، لا بد من :
– تشجيع النخب الفكرية على اقتحام العالم الرقمي، بتكوين إعلامي بسيط يُمكّنهم من تقديم أفكارهم في قوالب مناسبة للعصر.
– فتح منصات وطنية رقمية تستقطب الباحثين والمفكرين، وتُبرز مساهماتهم عبر فيديوهات قصيرة، رسوم بيانية، مقالات تفاعلية.
– إحياء دور النقاش العام عبر ندوات تُبث مباشرة وتتناول مواضيع تهم الشباب: الهوية، المستقبل، سوق الشغل، التكنولوجيا، الدين، القيم.
– دعوة المؤسسات الرسمية والجامعات لتكريم المبادرات الفكرية الرقمية التي تُعيد الاعتبار للعلم والفكر في الفضاء العمومي.
خلاصة القول : لا تتركوا الشباب لوحدهم
لقد آن الأوان أن يستعيد المفكرون والباحثون مكانهم الطبيعي في قلب المجتمع، لا على هامشه. إن واجبهم لم يعد مقتصرًا على الكتابة الأكاديمية أو المشاركة في المؤتمرات، بل هو اليوم مرتبط بإنقاذ جيلٍ من الضياع في فوضى “الترند” وسرعة “الفيديوهات القصيرة”.
صناعة الوعي تبدأ بكلمة، بصورة، بموقف، بفكرة تنشر في الوقت المناسب. وغياب صوت العقل اليوم يعني بوضوح صعود صوت العبث غدًا.
فهل ننتظر أكثر من ذلك؟
*الدكتور نورالدين البركاني ، باحث في قضايا الإصلاح والتنمية المجتمعية