نور الدين البركاني*
في زمن يبحث فيه المواطن عن الأمان والثقة، ويأتي فيه السائح لاكتشاف جمال البلد وأصالته، تطفو على السطح ممارسات تجارية غير مسؤولة تهدد هذه الثقة، وتُسيء إلى صورة الوطن. فقد أصبحت ظاهرة الغش منتشرة في عدد من المحلات التجارية، والمطاعم، والمقاهي، وحتى بين بعض سائقي سيارات الأجرة، وتتنوع أساليبها بين تضخيم الأسعار، والتلاعب بالفواتير، وبيع سلع مغشوشة أو منتهية الصلاحية، مما يستدعي دق ناقوس الخطر، ويتطلب منا وقفة صادقة للتوعية، ورد الاعتبار للضمير المهني والقيم الإنسانية.
الغش، في جوهره، ليس مجرد مخالفة قانونية، بل هو خيانة للثقة، وانحراف عن المبادئ التي من المفترض أن تؤطر سلوكنا في الحياة العامة. إنه لا يقتصر على شكل واحد، بل يتخذ صورًا متعددة:
🔻غش في الأثمنة من خلال الزيادة العشوائية وغير المبررة في الأسعار، خاصة مع الزبائن غير المحليين أو السياح. فكثير من أصحاب المحلات التجارية والمطاعم لا يلتزمون بتسعيرة واضحة، ويتعمدون تضخيم الأثمنة حسب مظهر الزبون أو لغته. فيطلب ثمنًا مضاعفًا لسائح أجنبي، أو يضيف مبالغ خفية في الفاتورة دون علم الزبون، مما يجعل من تجربة الشراء لحظة استغلال لا استحقاق.
🔻غش في الحساب والفاتورة، حيث تُضاف منتجات لم تُطلب، أو لا تُفصّل الفاتورة، ويُتعمّد إخفاء السعر الإجمالي.
في بعض المقاهي والمطاعم على سبيل المثال، يلاحظ الكثيرون تقديم فواتير غير مفصلة، أو حتى الامتناع عن تقديمها كلياً، وكأن الزبون لا حق له في معرفة ما دفعه مقابل ما طلبه. بل هناك من يُضيف سلعًا أو خدمات لم يطلبها الزبون، في محاولة للاستفادة من سهوه أو جهله.
🔻غش في الجودة: حيث تُعرض سلع فاسدة أو رديئة الجودة على أنها أصلية أو ذات جودة عالية، أو تُخفى عيوبها عمداً أثناء البيع، دون أي مراعاة لأثر ذلك على صحة الزبون أو سلامته.
🔻ترويج سلع منتهية الصلاحية: خصوصًا في المحلات الصغيرة أو عبر الباعة المتجولين، مما يشكل خطرًا مباشراً على صحة المستهلك، خاصة في ظل ضعف الرقابة وانتشار الأمية القانونية.
للأسف، أصبح الهمّ الأكبر عند البعض هو تعظيم الربح السريع، ولو على حساب القيم والضمير. فالغاية عندهم تبرر الوسيلة، حتى وإن كانت الوسيلة ضربًا في أخلاقيات المهنة وتنكّبًا عن طريق الاستقامة.
ومع ذلك، لا يجوز التعميم. فوسط هذا الواقع المظلم، يظل هناك تجار شرفاء يلتزمون بالمعايير الأخلاقية والشرعية في البيع والشراء، ويمارسون مهنتهم بنزاهة، ويتقون الله في تعاملهم، ويحرصون على كسب رضا الزبون قبل جيبه. هؤلاء يستحقون التقدير والتشجيع، لأنهم يمثلون صورة الوطن التي نريد أن نظهر بها أمام أنفسنا وأمام العالم، ويجب أن يكونوا قدوة ونموذجًا يُحتذى.
لكن المسؤولية لا تقع فقط على عاتق التاجر، بل تمتد إلى المواطن والسائح أيضًا. إذ لا بد من وعي استهلاكي ناضج، يتمثل في:
💠 مقاطعة التجار الغشاشين والتبليغ عنهم
💠 تشجيع المحلات النزيهة ودعمها.
💠 مقارنة الأسعار بين المحلات قبل الشراء لتفادي النصب.
💠 تفقد نوع وجودة وكمية وتاريخ صلاحية السلع قبل الشراء.
💠 المطالبة بالفاتورة المفصلة ومراجعتها بدقة.
💠 رفض أي زيادات أو خدمات لم تُطلب.
💠 التبليغ عن المخالفات للجهات المختصة.
فالثقة لا تُمنح بسهولة، ويجب على الزبون أن يُحصّن نفسه من الاستغلال بالحذر والوعي.
أرباب المتاجر والمطاعم والمحلات الذين يُمارسون الغش، يزرعون بذور سلوك غير أخلاقي داخل مؤسساتهم، فينشأ المستخدمون والمساعدون على نفس المنهج، ويبدأون في سرقة أربابهم أو التحايل عليهم، بنفس الأساليب التي تعلموها منهم. وهكذا، تتحول بيئة العمل إلى فضاء ملوث بالفساد الداخلي، حيث لا ثقة ولا أمان، وتتحول العلاقة المهنية إلى دائرة من الغش والسرقة والتلاعب المتبادل، فيخسر الجميع.
حين تُستبدل الأمانة بالجشع، وتُقدَّم المصلحة الفردية على القيم المجتمعية، نكون أمام انحدار أخلاقي خطير.
وهنا يُطرح السؤال بمرارة:
أين هي القيم؟ ولماذا هذا الجشع؟
أين تعاليم ديننا الحنيف؟ أين وصايا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم؟ ألم يقل: “من غش فليس منا”؟ ألم يحثنا على الرحمة والعدل والصدق في المعاملات؟
إن محاربة الغش ليست معركة فردية، بل مشروع مجتمعي متكامل يتطلب تظافر الجهود بين المواطن، والإدارة، والمجتمع المدني، والإعلام.
للتصدي لهذه الظاهرة، لا يكفي الوعي الفردي فقط، بل نحن بحاجة إلى دعم مؤسسات تُدافع عن حقوق الزبون. لذلك، يجب:
✅ تشجيع جمعيات حماية المستهلك وتوسيع مجال اشتغالها.
✅ إنشاء فروع لها في كل المدن والجماعات المحلية لتكون قريبة من المواطن.
✅ توفير آليات للتبليغ والدعم القانوني للمتضررين من الغش.
وفي هذا الشأن، تقع المسؤولية الكبرى على عاتق الدولة، فلا يُرتجى أي تغيير حقيقي دون تدخل حازم وفعّال من السلطات العمومية، لذلك، من الضروري:
✅ إلزام جميع المحلات التجارية، والمقاهي، والمطاعم بعرض أثمان السلع والخدمات بشكل واضح وشفاف.
✅ تكثيف حملات المراقبة الميدانية من طرف اللجان المختصة.
✅ تحرير غرامات مالية زجرية في حق المخالفين.
✅ سحب السلع الفاسدة من السوق، والعمل على إتلافها في الحين بعد تحرير محضر رسمي.
✅ إلزام أصحاب المحلات بتسليم الفاتورة للزبون دون طلب، ضمانًا للشفافية.
✅ توفير رقم أخضر أو تطبيق إلكتروني يتيح للزبناء التبليغ الفوري عن حالات الغش.
✅ إطلاق حملات توعوية وطنية، عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل، لزرع ثقافة الاستهلاك الواعي، والشراء من المحلات الملتزمة.
✅ اعتماد شارة “محل نزيه” كتقدير للمؤسسات الملتزمة بالقانون والنزاهة في التعامل.
لا بد أن نعي جميعًا أن المعاملات التجارية ليست فقط تبادلًا للسلع والخدمات، بل هي انعكاس لقيمنا المجتمعية. فحين يغش التاجر زبونه، فهو لا يسيء لنفسه فقط، بل يسيء لمدينته، ولبلده، ويهدد الثقة العامة التي تبنى عبر الزمن.
إذا أردنا فعلاً مجتمعًا متحضّرًا يرحم فيه القوي الضعيف، ولا يتغلب فيه الجشع على الضمير، فعلينا أن نُعيد الاعتبار للنزاهة، وأن نُشجّع كل من يعمل بشرف وأمانة. فالتاجر الصادق لا يحتاج إلى دعايات، بل يفرض احترامه بجودة خدمته ونظافة ضميره. علينا أن نعيد زرع القيم في عقولنا وقلوبنا، ونربي أبناءنا على الأمانة والنزاهة، ونحاسب من يعبث بمصالح الناس دون رحمة.
المال ليس غاية، بل وسيلة، وإذا حُصّل بطرق غير مشروعة، فلن يجلب البركة، ولن يُحقق السعادة، بل يفتح أبواب الندم والجزاء.
فلنكن جميعًا جزءًا من التغيير، عبر: الوعي واليقظة، الدعم والمقاطعة الواعية، والتبليغ عن أي خرق للحقوق.
—
*الدكتور نورالدين البركاني ، باحث في قضايا الإصلاح والتنمية المجتمعية