حسن بويخف
فيما دول مثل المغرب لم تتفاعل بأي شكل ظاهر كأنها تستقبل نسيم هواء عليل، قامت دول أخرى بردود فعل مختلفة ضد زحف المثلية الجنسية. وفيما ينادي حقوقيون بالتعامل بمنطق “دعه يُمَثَّل كما يشاء فذلك حقه”، ترتفع أصوات من كل جانب لتعلن ظهور علامات الساعة، وتنعي البشرية في يأس مرير.
في هذا المقال سنكتفي بمعالجة منطق المواقف الرافضة للمثلية الجنسية التي تزحف بخطى متسارعة سنة عن سنة، تاركين لمن يناصرها ويدعو إليها حقه في أن “يمثل كيف يشاء”.
الرافضون للمثلية الجنسية اسما وشكلا ومضمونا، المشترك الأساسي بينهم أمران، الأول أن مواقفهم يحكمها منطق رد الفعل. والثاني، أنهم لا يدركون طبيعة ما يواجهونه إدراكا مناسبا. والخلاصة أن جعجعتهم لن تنتج طحينا، إن لم تكن بالعكس عاملا فاعلا في ديناميكية توسع ظاهرة المثلية الجنسية.
المثلية الجنسية يلخصها كثيرون في طبيعة العلاقات الجنسية بين أشخاصها أو في بعض التظاهرات المتعلقة بها، لذلك فاهتمامهم موجه نحو حالات يكون فيها أشخاص بعينهم هم الفاعلون، وجهودهم تصرف في مطاردة ألوان “قوس قزح” المثلية.
وهذا القصور في إدراك طبيعة الظاهرة يعتبر أحد أهم العوائق والنقائص التي تصدر عنها ردود الفعل المقاومة لمد المثلية.
المثلية الجنسية منظومة عالمية متكاملة، تستمد شرعيتها من المواثيق الدولية ومن تنامي الاعتراف الدولي بها، وتستمد قوتها من الدعم الذي توفره الأمم المتحدة، ومنظمات حقوق الانسان، والدول المعترفة بها، ومن تنافس برامج أقوى الأحزاب السياسية في الدول الغربية، وتتمتع بسند إعلامي قوي، كان آخر موجاته إعلان شركة والت ديزني عن (خطتها التسويقية بناء على مخطط لتحويل وإنتاج نحو 50% من الشخصيات الكارتونية التي تظهر في أفلام ومسلسلات الكارتون الخاصة بها بنهاية عام 2022 إلى شخصيات مثلية الجنس)، وانخراط شركات عملاقة مثل نتفليكس في إنتاج وترويج الأفلام المشجعة للمثلية والمدافعة عنها، وخاصة الموجهة للأطفال. ناهيك عن الدراما السنيمائية المتوجهة عموما نحو التطبيع مع الظاهرة، هذا إضافة إلى جهود دول كثيرة، بشكل رسمي أو بشكل صامت، في إحداث تكييفات في مناهجها الدراسية والتربوية لتنشئة أجيال المستقبل على التطبيع مع الظاهرة.
ما سبق مجرد عناوين تختصر الإطار الداعم للمثلية الجنسية، والاستثمار في تهيئة الأجيال المقبلة من خلال استهداف الأطفال.
وإذا أضفنا له أننا أمام حركة اجتماعية لها تاريخها النضالي الذي يلهمها الاستمرار في التضحية من أجل ما تراه حقوقا، ولها منظماتها الخاصة، وإعلامها وأنشطتها، وتتواجد في العديد من الدول، ولها نشطاء في معظم دول العالم الذين يتطلعون إلى إنشاء حركات محلية قوية، سندرك أننا أمام قوة عالمية صاعدة وزاحفة.
قد يستغرب البعض إن قلنا إن المثلية، كما هو الشأن بجميع القضايا التي تدخل دائرة حقوق الإنسان أمميا، هي ركيزة من ركائز إيديولوجية النظام العالمي الجديد، وقد يتطلب تغيير وضعها تغيير موازين القوى في العالم، والتي أصبحت اليوم بيد الغرب.
قد يتسرع البعض إلى القول، استنكارا، وهل نستسلم؟
إن الأمر لا يتعلق في حقيقته بما سيقرره كل شخص، بل بما يمكن أن يفعلوه مجتمعين ويحقق ما يريدون بأفق دولي واسع.
قد يصدم البعض إذا قلنا إنه في التقدير، ستنشر المثلية في العالم وستصبح أمرا “عاديا” في كل المجتمعات. وسيترافع البعض بالخصوصية الثقافية والدينية، وسيجادل آخرون بمواقفهم الشخصية، وشحنتهم العاطفية.
لكن دعونا نتأمل، باختصار، في أمر شبيه بالمثلية الجنسية، كيف كان وكيف أصبح.
قبل أربعة عقود تقريبا، كانت جميع دول العالم الإسلامي ترفض اتفاقية مناهضة جميع أشكال التمييز ضد المرأة، سيداو، رفضا قاطعا. وبالرجوع إلى تحفظات الدول الإسلامية نجدها في شبه إجماع على أن الأمر يتعلق باتفاقية تتناقض مع الشريعة الإسلامية في كثير من موادها، وعرفت الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي معارك مجتمعية ضارية، بين المناهضين للاتفاقية والمساندين لها، ويتذكر الجميع “المسيرة المليونية” للإسلاميين بالدار البيضاء سنة 2000، ضد مشروع “خطة إدماج المرأة في التنمية” الحكومية التي استلهمت مبادئ سيداو.
لكن شيئا فشيئا توسعت دائرة الدول المصادقة على الاتفاقية، وتوسعت دائرة المواد التي ترفع عنها تلك الدول تحفظاتها بشكل تدريجي، وظهر جيل جديد من الدساتير وقوانين الأحوال الشخصية التي تصالحت مع الاتفاقية، …
واليوم جميع دول العالم الإسلامي صادقت على الاتفاقية باستثناء دولة إيران والسودان (صادقت عليها 190 دولة من أصل 195). والمغرب رفع جميع تحفظاته عليها، باستثناء تصريح يتعلق بالمادة الثانية، خاصة وأن له علاقة بوراثة العرش وبمسألة الإرث. ولم تعد للحديث عن الاتفاقية أية حساسية، بل اجتهد الإسلاميون أنفسهم في التمكين لها، ونُذَكر على سبيل المثال بمصادقة البرلمان بالإجماع في يوليوز 2015 على البروتوكول الاختياري المرفق بالاتفاقية في عز قيادة الحزب الإسلامي للحكومة وتزعمه الأغلبية البرلمانية، بعد أن أمضى في أرشيف مجلس النواب قرابة 46 سنة (تم إيداعه في مكتب المجلس بتاريخ 31 دجنبر 1969).
لقد فقد العداء للاتفاقية جميع مقوماته، رغم أنها، أي الاتفاقية، لم تتغير، كما لم تتغير الشريعة الإسلامية التي رفعت في وجهها، لكن تغيرت المواقف نتيجة منطق التمكين للمواثيق الدولية، فهو يعمل ببعد استراتيجي وحضاري، ويراهن على التراكم المتدرج عبر الوقت، وعلى صناعة القابلية لذلك التدرج عبر مختلف الآليات، وعلى الإصرار الضاغط في الدفع نحو تحقيق الأهداف.
ونفس المنهجية خضعت لها قضايا أخرى مثل ما يتعلق بالطفل.
إنه نفس الامتحان، لكن الرافضين لا يدركون طبيعته، ويعيدون نفس “الأخطاء” الاستراتيجية التي ارتكبوها، ليس في قضية سيداو فقط، ولك في كل القضايا التي تهم مجتمعاتهم ولها نفس الطبيعة الدولية مثل قضية فلسطين.
إن التاريخ لا يعيد نفسه أبدا، لكن الناس تعيد نفس الأخطاء لتصوغ تاريخا جديدا في قضايا متشابهة.
يكفي أن نتفحص الساحة في كل الدولة إسلامية، لنكتشف أن الأرضية جاهزة للتطبيع مع المثلية الجنسية، وقضايا أخرى من طبيعتها، مثل ما يتعلق بالإرث، والعلاقات الرضائية، والإجهاض، والأكل العلني في رمضان، …
فعلى سبيل المثال، في المغرب موضوع المثلية كسر حواجز كثيرة، وأصبح موضوع نقاش عمومي وهذا في حد ذاته مكسب رفع عنها طابع الطابو، وأصبح لديها من يرافع عنها في إطار الحريات الفردية. وخطوط تحرير معظم وسائل الاعلام ليس لها موقف رافض من المثلية الجنسية، وتغلب المقاربة الحقوقية، والمجتمع المدني الحقوقي يناضل في القضية بشكل قوي مستندا إلى المواثيق الدولية، والأحزاب السياسية، باستثناء حزب الإسلاميين، ليست لها مواقف رافضة، وهي اليوم تغض الطرف، وتنوء بنفسها اليوم عن الدخول في أي نقاش وفي التقدير فهي جاهزة للتطبيع مع القضية، والسلطات تدبر الملف بشكل لا يسمح له بإحداث ضجة، فالدولة حساسة للنقد الحقوقي في مثل هذه الأمور، لذلك لم تقم السلطات بأي شيء لما روجت المصاحف التي تحمل الألوان المثلية في سنة 2017، كما سمحت بترويج فيلم الرسوم المتحركة “لايت يير” (Lightyear) الموجَّه للأطفال، الذي رفضته بعض الدول الإسلامية والغربية، وتمنع الزيجات المثلية لأن الدستور لم يعترف بعد بمثل هذه الزيجات…
نفس الصورة التي في المغرب نجدها بمستويات متفاوتة في جميع دول العالم الإسلامي.
ولن يعدم الإسلاميون أنفسهم “اجتهادات” تحميهم في مسايرة قيم المثلية التي أصبحت تكسب مكانة في قياس تحضر النخبة، وسيكتشفون فيها ما اكتشفوه مما صالحهم مع اتفاقية سيداو.
سيسأل البعض: وما الحل؟
في التقدير ليس هناك حل بالمعنى التقليدي لمفهوم كلمة الحل، فالمثلية آتية وفق ما سبق بيانه، والتعويل على الدولة في ضل ضعف المجتمع ومواجهتها بالخطب والمواعظ في ظل ما ستتعرض له من ضغوطات لا قبل لها بها، رهان غير كافي، إن لم يكن رهانا فاشلا.
وهذا يعني أننا أمام “مشكلة حضارية” لا تهم قضية المثلية وحدها، ولا يتعلق حلها بمواقف الأشخاص والدول، بل بتغيير شبكة العلاقات في مستويات أعلى تستند إلى موازين القوى العالمية.
لا مانع من أن يعتبر البعض هذا مبالغة، لكن في التقدير هذه هي حقيقة كل قضايا الهوية والقيم، ومن بينها قضية المثلية الجنسية اليوم، التي تدبرها الأمم المتحدة وتخضع لمنطقها. فإلى أن تستعيد المحافظة الدينية والأخلاقية زمام قيادة العالم من جديد، ستضل المثلية الجنسية تزحف وتزحف حتى تقتحم جميع المجتمعات، وتتحول فيها إلى ظاهرة “طبيعية” بعد أن كانت ظاهرة منبوذة.
ألم تكن المجتمعات الغربية محافظة مثل مجتمعاتنا في يوم من الأيام؟ فنحن نسير خلفهم في نفس الطريق، وهذا لا يعني الاستسلام، بل فقط يطرح سؤال: بأي وعي؟