خلي داك الجمل راگْد!

Hassan bouikhif

حسن بويخف 

“خلي داك الجمل راگْد”، (الكاف معجمة)، مثل كثير التداول في الأسر، وفي أوساط العمل، وفي الشارع، وفي نقاشات المقاهي والأندية، … لكن يتداوله كثيرون خارج سياقه، ومفصولا عن “قصته الأصلية”، مما أفقد عباراته الكثير من دلالاتها. 

وفيما جعله كثيرون عنوان حجب الحقيقة والتستر على العيوب والاختلالات، جعله آخرون عنوان الاستسلام والتهرب من المسؤولية في مواجهة الحقيقة المرة. والواقع أن ذلك المثل، حين توضع عباراته في سياقها “الأصلي”، حسب الرواية التي سنعتمدها هنا، تجعل له دلالات أقوى وأعمق.

وكما هو الشأن في التراث الشفاهي، فمن الأكيد أن تكون لذلك المثل عدة روايات وقصص، ولسنا هنا بصدد تقصيها والتحقيق بشأنها، لكن سنضع عباراته في إطار قصة وفق رواية تبدو أكثر انسجاما مع المعاني التي تختزنه تلك العبارات.

وتقول القصة، في إحدى رواياتها، أن أعرابيا أراد بناء “عَريش” له في مكان مختار، وكان جَمَل له قد بَرَك فيه، ولم يشأ إزعاج الجمل فقرر تركه نائما وبناء عريشه حوله، وكذلك كان.

ولما أنهى الأعرابي بناء العريش، بعد جهد جهيد، أخد في تأمله فرحا مسرورا وهو يطوف بداخله مطمئنا، ثم ما لبث أن لاحظ أن الجمل إذا قام واقفا سيُسقِط سقف العريش ويخربه، فانتابه غضب شديد وحيرة كبيرة، وقرر ترك الوضع كما هو عليه فقال قولته الشهيرة: “خلي داك الجمل راگْد “!

والمثل واضح في أن رسالته تتعلق بتأجيل سيكولوجي لكارثة واقعة لا محالة، وهروب من وضع يعبر عنه المثل القائل “فكها يا لي وحلتها”.

وتستمد الأمثال الشعبية ديمومتها وقوتها التداولية حين تكون الحياة الاجتماعية والسياسية غنية بالنوازل الشبيهة لها، والتي توقظ صورتها في الأذهان، وتفرض الإحالة الثقافية عليها للتعبير عن رسالتها الأصلية.

وبالطبع فالمثل، يختصر منهجا في العمل، يفتقر فيه المرء إلى رؤية سليمة، ولا تحكمه أولويات منطقية وواقعية، ويعجز فيه عن اتخاذ القرارات الصحيحة وفي الوقت المناسب، والتصرف وفق مقاربة التأجيل الواعي لمواجهة الحقيقة، وانتظار الحلول السحرية، والتنصل من المسؤولية، وتعليقها على مسجاب “لها مدبر حكيم” و”دعها حتى تقع”.

والأعرابي في المثل يجسد صورة لسلوك ومنطق سائدين في عالم السياسة والإدارة والأعمال، ويطلق عليه “العمى الطوعي”. 

والعمى الطوعي، كما عرفه الذين نحتوا مصطلحه، هو التعامي الواعي عن مشاكل قادمة مستقبلا، هي نتيجة ما نتخذه من قرارات في الحاضر، من أجل تدبير اللحظة القائمة. 

ويعتمد المسؤولون السياسيون بالخصوص منطق العمى الطوعي في التدبير اليومي للقضايا الكبرى، حيث يجتهدون في سد الثغرات القائمة لإنتاج وضع أقل سوءا، حتى حين يكون الاتجاه العام يسير نحو الكارثة مستقبلا. 

ووفق هذا المنطق، لا يهم ما هو استراتيجي حتى مع وجود استراتيجيات، بل الذي يهم هو الحاضر والمدى القريب و”النجاح” فيهما، أما المدى البعيد فسيكون له “مدبر حكيم”.

ومن البداهي أن الأعرابي يعلم أن الجمل لن يظل باركا في مكانه إلى ما لانهاية، ويعلم علم اليقين أن خياراته محدودة جدا: أن يفكك بنفسه ما بناه بعاطفة وبعمى طوعي ويعيد بناءه، أو يترك المهمة للجمل ليقوم بالمهمة بطريقته، أو يذبح الجمل ويخرجه من العريش مجزأ، كما يقول المثل الأمازيغي:”إميك س إميك أسن كولو نكا أرام غو اكدور”، ومعناه الدارجي “شويا بشويا باش دخل الجمل الكدرة”.  

لكن رغم ذلك فالأعرابي يريد الاستمتاع بتلك اللحظة، ويختار الهروب من الواقع والتغاضي عنه وعن مشاكله، وربما جلس بجانب الجمل وشرب كأس شاي على أنغام مزمار وهو يترنم.

ولا أحد علم ما دار في خلد الأعرابي، ربما انتظر من الجمل أن يحبو على ركبتيه ويخرج من العريش مثل قط لطيف، او اعتبر صورة الجمل وهو بارك مجرد وهم أو مكيدة أعداء، أو وضعا تمت فبركته من الخارج، …

إن ثقافة العمى الطوعي لن تجعل الأعرابي يستفيد شيئا من درس “العريش”، فمن جهة لن يقبل بتحمل ضريبة إزعاج “الجمل” لأن ذلك “يشوش” على برامج أخرى أنتجها عماه الطوعي وهو غارق فيها، ومن جهة ثانية، لن يعترف أبدا بسوء التقدير والاختيار. 

وكثير مما يعانيه الناس اليوم هو تِمار العمى الطوعي للذين من قبلهم، وما سيعانيه الناس في المستقبل هو نتيجة العمى الطوعي للذين يقررون اليوم، وهكذا يقع المجتمع في كماشة دوامة مدمرة للعمى الطوعي ترهن مستقبله وأمنه ومصيره لمزاج “الجمل”.

أضف تعليقك

Leave A Reply

Exit mobile version