الأسرة المغاربية وتحدي القيم

لعل من أكبر التحديات التي تواجهها الأسرة بشكل عام، التحولات القيمية الشاملة، والتي جعلتها تكنولوجيا الاتصال الحديثة تستهدف جميع مكونات الأسرة بدون استثناء. ويناقش المقال العلمي التالي، لكاتبه الدكتور فريد عمار، والذي نشره موقع الإصلاح التحديات القيمية التي تواجهها الأسرة المغاربية.

ولأهمية المقال نورده كما جاء في مصدره كالتالي: 

 إن واقع الأسرة المعاصرة وما تواجهه من تحديات كبيرة، نتيجة التحولات المتسارعة التي تشهدها المجتمعات في بنياتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، جعلت المرجعية القيمية للأسرة أكثر الأساسات تعرضا للاضطراب والتغير. 

وإذا أردنا أن نقارب هذا التّحدي القيمي الذي أصبح يمسّ جوهر وكيان الأسرة، لابدّ من محاولة الإجابة على أسئلة مقلقة من قبيل:

– أين تتجلّى إشكاليّة مفهوم القيم الأسريّة بين الخصوصيّة والكونية؟

– ما هي أهم التّحولات القيميّة للأسرة في الواقع المعاصر؟

– هل تمت مقترحات وتوصيات عملية لإحياء القيم الأسرية ؟

المحور الاول: حول إشكالية مفهوم القيم الأسرية بين الخصوصية والكونية.

يجب الاعتراف بداية بوجود فوارق جوهرية بين فلسفة القيم في المنظومتين: «منظومة الهوية الأصيلة» من جهة، وما يطلق عليه اسم «المنظومة الكونية»(1) «من جهة أخرى.

(1) أوجه التعارض بين القيم الكونية والهوية الأصيلة

إن أبرز هذه الاختلافات تتجلى في المرجعيات المرتبطة بالتّصورين من خلال ما يمكن استنتاجه من مختلف أدبياتهما، ومنها:

– سيادة ثقافة الحقّ على ثقافة الواجب .

– سيادة ثقافة الحرّية على ثقافة الالتزام.

– سيادة المرجعيّة التعاقديّة على المرجعيّة التّراحميّة.

وهذه التّقابلات تثير إشكاليّات عميقة لها عواقب وخيمة على استمرار واستقرار الكيان الأسري. ذلك أنّها تجعلنا ننظر إلى الأسرة ليس ككيان متضامن ومتراصّ له أهداف ومرجعيّة موحّدة، وإنّما كمجال يجمع كيانات متصارعة لها أهداف ومرجعيّات متباينة تتجلّى في الرّجل والمرأة والأبناء كلّ على حدة.

إنّ سيادة قيمة الحقّ مثلا يشكّل أساسا للصّراع وتحقيق الذّات والخلاص الشّخصي، مقابل قيمة الواجب كمجال للتّكامل والتّعاون وتحقيق الخلاص الجماعي.

وقيمة الحرّية في بعدها المطلق تصبح أداة للمطالبة وممارسة الحقوق بعيدا عن أيّ ضابط لقيمة الالتزام بالواجبات تجاه الآخرين داخل فضاء الأسرة.

والذي يؤجّج من هذا الصّراع هو كون إطاره المرجعي مبني على قيم التّعاقد كأساس أوحد لبناء الرّوابط والعلاقات الاجتماعيّة عموما والأسريّة على وجه الخصوص، بعيدا عن قيم التّراحم والتّسامح. لذلك شكّل التعاقد الأساس البنيوي للنّسق الاجتماعي عموما والأسري خصوصا في ما يسمّى بمنظومة القيم الكونيّة. 

وعلى هذا الأساس يبقى السؤال المطروح في ضوء هذا التعارض حول نموذج الأسرة المنشود:

هل نحن نريد نموذج أسرة مؤسّسة على فلسفة القيم التعاقدية (الحقوق مقابل الواجبات) والمفضية إلى المحاسبة ثم التّنافر؟

أم نريد أسرة مؤسّسة على فلسفة القيم التّراحميّة (التّضامن والتّعاون على أساس الفضل) والمفضية إلى التّجاوز ثمّ التلاؤم؟

غير أنّ الإشكال لا ينتهي باختيار وتبنّي إحدى المقاربتين «التعاقدية» أو «التراحمية». فلماذا؟

(2) الأسرة بين قيم التعاقد وقيم التراحم :

إن اختيار بناء الأسرة على قيم التّراحم دون التّعاقد، قد يؤدّي إلى إعادة استحضار النّموذج السّلطوي الأبوي والذي يورث في المقابل نموذج المرأة المطيعة والخاضعة والمستضعفة، وذلك لغياب ضمانات استحضار قيمة العدل وتقدير الدّور المحوري للمرأة في الرّعاية الأسريّة والفعل الاجتماعي. وهذا ما خلدته الكثير من التّجارب الإنسانيّة في المجتمعات القديمة.

أما اختيار بناء الأسرة وفق قيم النّموذج التّعاقدي دون استحضار قيم التّراحم، فقد يحيل على قيم المجتمع الرّأسمالي الذي يكرّس طغيان القيم الاقتصاديّة وقيم المجتمع الاستهلاكي التي ظهرت مع المجتمعات الرّأسمالية ذات القيم اللبراليّة.

غير أنّ هذا النّموذج رغم عدم نجاعته لاستغراقه في قيم المادّية وإفراغه للمجتمع من قيمه الرّوحية والإنسانيّة، أصبح الأكثر اتّباعا وانتشارا في الغرب، والأكثر استيرادا واستلهاما من طرف المجتمعات الشّرقية. فقد أصبح بريقه يزداد لمعانا لما ارتبطت به المجتمعات من تطوّر اقتصادي وتكنولوجي وإعلامي، خاصة بعد الثورة الرقمية وعولمة القيم الثّقافيّة.

إن هذا النّموذج وإن كان يبدو أكثر انسجاما مع طبيعة المجتمعات التي أنتجته- رغم الانتقادات الموجّهة إليه من طرف علماء الاجتماع الغربيّين أنفسهم(2)، فإنّ ذلك يرجع إلى السّياق التّاريخي والاجتماعي الذي أنتجه عبر عدّة مرحل وهي:

– مرحلة الأخلاق البروتيستانتيّة: والتي ظهرت في إطار مخاض الإصلاح الدّيني الذي عاشته المجتمعات الأوروبية للتّخلص من السّيطرة والإخضاع الذي كانت تمارسه الكنيسة على المجتمع، بما فيها الرّكن الأساس المشكل له وهو الأسرة، من خلال تركيز السّلطة الأبويّة.

–  مرحلة فلسفة العقد الاجتماعي: والتي ظهرت مع بزوغ عصر الأنوار الأوروبي والبحث عن إطار للسّلم الاجتماعي يحافظ على كيان المجتمع ككل. وهو أيضا ما تجلّى في طبيعة التّغيير الذي لحق ببنية العلاقات الأسريّة من خلال دخول قيمة التّعاقد.

– مرحلة الأخلاق الرأسمالية: والتي ظهرت مع الثّورة الصّناعية وسيادة الطبقة البورجوازيّة التي أدخلت قيم العمل والملكيّة كأساس لتوزيع السّلطة داخل  مختلف بنيات المجتمع بما فيها الأسرة، حيث لم يعد العمل والتّملك حكرا على الرّجل من دون المرأة التي أصبحت لها ذمّة ماليّة مستقلّة وسلطة التّدبير والتّصرف. وقد أصبح الفرد هو المحور الاجتماعي وليس الأسرة في إطار ما سميّ بالفردانيّة أو مركزيّة الفرد.

– مرحلة قيم المجتمع الاستهلاكي: والتي ظهرت مع الثّورة التكنولوجيّة والإعلاميّة، حيث أصبحت القيم بنفسها سلع يمكن تسويقها وتدويلها في عصر العولمة،  الذي فقدت معه الأسرة كيانها ومرجعيتها الدّاخلية أمام هول وسطوة المرجعيّات التي يسوقها الإعلام المعولم.

فهذه المراحل التي نقلت هذه المجتمعات من مرحلة قيم «ما قبل الحداثة»  مرورا بقيم «الحداثة» وانتهاء بقيم «ما بعد الحداثة»،  تدلّ على مسار طويل ممتد لأكثر من خمسة قرون، ومرتبط عضويا بنسق التّحولات البنيويّة التي عرفتها المجتمعات الغربيّة، وأفضت الى ترسيخ  المنظومة القيمية التي ارتكزت على مفهوم التّعاقد في مراحلها الأولى، لتتجاوزه بعد ذلك إلى قيم ما بعد التّعاقد الذي يتجسّد في مركزيّة الفرد والحرّية المطلقة، من خلال ظهور بنيات اجتماعيّة تتجاوز المفهوم التّقليدي للأسرة: «زوج وزوجة وأبناء»، إلى بنيات جديدة وغريبة من قبيل:

– الأسرة المثلية: زوج وزوجة من نفس الجنس: ذكرين(الشّواذ) أو أنثيين (السّحاقيّات).

الأسرة المستأجرة: زوج وزوجة مع أبناء ملقحين اصطناعيّا، ومولودين من رحم امرأة مستأجرة الرّحم.

– الأسرة المتبنّية: حيث يقوم رجل أو إمرأة  بتبنّي طفل مشرّد أو متخلّى عنه وتكوين أسرة معه.

– الأسرة الأموميّة: إمرأة مع ابن أو أبناء أنابيب مختبر أتوا من نطف مجمّدة معروضة للبيع مجهولة النّسب والهويّة.

– الأسرة الجنسيّة: وهي علاقة السفاح التي تجمع خليلين دون رابطة زواج بهدف المتعة والممارسة الجنسية التي لا تترتّب عنها أيّ التزامات.

فهذه البنيات الاجتماعيّة التي قد لا يصلح أن نطلق عليها مصطلح «أسرة»، والتي أفرزها هذا التّحول الجدري من خلال المسار الطويل نحو إحقاق هذا النّوع من القيم الحداثيّة أو ما بعد الحداثيّة، يبيّن بوضوح أنّ أي محاولة لاستنساخ هذا النّموذج الغربي دون استحضار هذه الخلفيّة التاريخيّة ومآلاتها المستقبليّة، قد يؤدّي لا محالة إلى ظهور هذه البنيات المشوّهة المزاحمة لمفهوم الأسرة الأصيل، بل والتي قد تهدّد حتى بقاءه مستقبلا.

  والحاصل أن هذا يوضح مدى التّناقض في بنية القيم الاجتماعية عموما والأسريّة على وجه الخصوص بين المجتمعين «الغربي» و«الإسلامي». فالمجتمعات الإسلامية عموما تستبطن في أعرافها وثقافتها عبر قرون قيم التّراحم المؤسّسة على المودّة والرّحمة والتّكافل والتّعاضد على أساس الفضل بين الطّرفين، ولا يستعاض عنها إلاّ بقيمة العدل. بالتّالي لا يمكن لهذه التّحولات التي تعرفها الأسر في مجتمعنا المعاصر مهما بلغت قوّة صدماتها أن تشقّ الكيان الدّاخلي المشكّل عبر قرون خلال فترة تتجاوز بقليل نصف قرن من الزّمن (منذ الاستعمار)، رغم ما أحدثته من تحوّلات وتغييرات في الوظائف الأسريّة .

المحور الثاني: أهم التحولات والتغييرات في النسق القيمي للأسرة المغاربية.

إنّ التناقض الحاصل في البناء القيمي للأسرة المغاربية (بين الأصالة والحداثة) يتجلّى في الكثير من التقابلات والثّنائيات التي تطبع السّلوك الاجتماعي، من قبيل التّمسك بالعادات والتّقاليد المرتبطة بالأعياد والمناسبات الدّينية (صلاة الجمعة والأعياد والتّراويح..) من جهة، والإقبال الملفت على وسائل الموضة والتّرفيه والاستهلاك (المهرجانات الموسيقيّة والشواطئ المختلطة والأسواق الممتازة…) من جهة أخرى. كذلك الاهتمام بالقيم العقلانيّة والانفتاح على التّكنولوجيا من جهة، وارتياد المزارات والأضرحة لطلب البركة والشّفاء من الأمراض وطلب الزّواج والأبناء من جهة أخرى.

وهذا التناقض يبرّر من خلال مستوى التّحول القيمي، الذي يحيل على تغيّر بنيوي في طبيعة الأسرة نفسها من جهة، ومستوى التّغير القيمي الذي يدلّ على ما يصيب الوظائف الأسريّة من تغيير.

(1) بعض مظاهر التحول القيمي في الأسرة المغاربية.

إن التأثير الحاصل نتيجة استلهام قيم المجتمع الغربي، ومحاولة تبنيها كنموذج حضاري ناجح بعيد الاستعمار، يمكننا من رصد أهمّ التّحولات التي شهدتها الأسرة المغاربية خلال نصف القرن الماضي من خلال المؤشّرات التالية:

– التّحول من البنية المركّبة والممتدة للأسرة إلى البنية الأسريّة النّووية أوالمحدودة.

– الانتقال من أسرة الإشراف الأبوي في ظلّ سلطة الرّجل، الى الاستقالة شبه تامّة مقابل تنامي دور الأم وسلطتها، إمّا بشكل اضطراري أو اختياري.

– الانتقال من وحدة المرجعيّة التّربوية وإن تنوعت مصادر التّنشئة الاجتماعيّة (العائلة/الجيران/المدرسة/الشارع..)، إلى تعدّد المرجعيّات التربوية مع توحّد أهداف أطرافها في نسف القيم المرجعية وتعويضها بالقيم الاستهلاكية ( الإعلام والاتصال /الأنترنت/ وسائل التكنولوجيا…).

– الانتقال من دور التأطير التربوي لمؤسسات التنشئة الاجتماعية إلى الدور الوظيفي المحض، فمثلا: تحولت المدرسة من مؤسّسة تربّي على القيم إلى مؤسّسة تلقّن المعارف وتعلّم المهارات. وتحوّل الإعلام من مؤسّسة وطنية موجّهة نحو القيم إلى مؤسسة معولمة موجهة خارج القيم المرجعيّة.

(2) بعض مظاهر التغيرات القيمية في الأسرة المغربية.

وهذه التغيرات مسّت بالأساس نمط العلاقات الدّاخلية (البينية) والخارجيّة (مع المحيط الاجتماعي)، والأسلوب التّربوي، بالاضافة إلى الوظائف الأساسيّة للأسرة. ويمكن رصد هذه التّغيرات على المستويين الاجتماعي والتّربوي.

على المستوى الاجتماعي من خلال:

– انخفاض معدل الأوقات التي يقضيها أفراد الأسرة جماعيا بسبب عدة عوامل منها؛ تبني سياسات تركز على الأبعاد الاقتصادية دون الاجتماعية؛ كالعمل بالتوقيت المستمر الذي يحرم الأسرة من الاجتماع وقت الظهيرة، حيث يكون نشاط أفراد الأسرة لازال في أوجه مما يشجع على تبادل الطاقة الإيجابية بين الأفراد، وجعل اللقاء العائلي وسيلة لكسر روتين العمل، وفرصة للاجتماع حول طاولة الغذاء عوض الانزواء داخل ركن المكتب أو أمام مرآة محلات الوجبات السريعة. وهذا ما يجعل العلاقات الأسرية ليلية مع ما يرتبط بهذه الفترة من اليوم من السكون الذي يعززه الإرهاق خلال يوم عمل طويل.

أضف الى ذلك ما أحدثه التطور التكنولوجي، واقتحام التكنولوجيا في أصغر تجلياتها لعالم الأسرة الصغير خاصة مع الأنترنت والتواصل الافتراضي، مما يزيد من انزواء أفراد الأسرة خلف حواسيبهم أو هواتفهم الذكية.

– تراجع قيم التزاور وصلة الرحم بسبب تعويض الزيارة المباشرة بالمكالمة الهاتفية أو عبر وسائط التواصل الاجتماعي الافتراضي خاصّة مع انخفاض تكاليف الربط والاتصال اللاسلكي. غير أنّ السّبب الرّئيس في هذا السّياق يكمن وراء التّغير المرتبط بالبنية العمرانيّة للحواضر والمدن، حيث انتقلنا من المساكن الفسيحة من خلال العمران الأفقي، إلى المساكن الضّيقة مع انتشار العمران العمودي. فانتقل بذلك المسكن من فضاء للتّساكن والتّزاور وكرم الضيافة إلى مكان للمبيت فقط.

– انتشار ثقافة التباهي بالمظاهر الخارجية (السّعي وراء المركات العالمية وآخر صيحات الموضة…) كأساس لصناعة المركز الاجتماعي، على حساب ثقافة التّواضع والتّكافل والتّعاون لتعزيز التّعاضد والتّماسك الاجتماعي. وهذا ما ساهم في تشكيل قيم المجتمع الاستهلاكي غير المنتج في الأوساط الأسريّة، ممّا أثّر بشكل إيجابي على رواج اقتصاديّات الأسواق الممتازة والقروض الاستهلاكيّة.

على المستوى التربوي من خلال:

– ظهور ما يمكن أن نسميه «بالتربية التفويضيّة» أو «التفويض التّربوي». حيث انتقل منطق التّدبير المفوض للمرفق العمومي من طرف المقاولة الاقتصاديّة إلى الأسرة. فأمام الانشغالات المتزايدة لطرفي الأسرة (الأب والأم) بالتحصيل المالي وتحقيق الذّات في عالم تسوده قيم التّكافؤ لا التّكامل، وتوازي الأدوار لا تكامل الأدوار، تمّ تفويض تربية الأبناء إلى دور الحضانة ومؤسسات التربية والتعليم الخاصة والعموميّة، ومراكز تعليم اللّغات ومراجعة الدّروس والنوادي الترفيهية والرياضية، وأسندت مهمة الإشراف المباشر على الأبناء في بعض الأحيان إلى المساعدات وخادمات البيوت.

– التمركز حول الأبناء وربما الابن الواحد (في إطار الاقتصار على مولود وحيد) من خلال الانتقال من منطق العيش مع الأبناء إلى منطق العيش من أجل الأبناء. فوجود الأبناء داخل الأسرة لم يعد أساسا للاستمتاع كزينة للحياة الدنيا، وتنامي مشاعر الحب والدفء العاطفي، وإنما بداية رحلة أبوية مؤلمة من  نكران الذات والعيش من أجل توفير الحاجيات المادية والسعى لضمان مستقبل واعد. وهذا ما يولد نوعا من الارتباط المرضي بالأبناء قد ينتج عنه صدمة التخلي عن الآباء في الكبر، بسبب انتظار المقابل على الخدمات الأبوية السابقة.

– الغياب شبه التام ثقافة المسؤولية والتربية عليها من خلال تبني أسلوب التربية التبريرية، وتحميل مختلف أخطاء الأبناء للغير (المدرسة، المجتمع..)، واعتبارهم ضحية واقع اجتماعي صعب. ويتجلى هذا في تبرير فشل الأبناء في الدراسة أو انحرافهم السلوكي (التعاطي للمخدرات…)، أو عدم قدرتهم على استقلاليتهم بعد تخرجهم وحصولهم على الشواهد الجامعية أو المهنية.

المحور الثالث:  بعض المقترحات والتوصيات العملية.

 سأقتصر في هذه المقترحات على ما يتعلق بالسياسات العمومية ودور الدولة بشكل رئيس، ومساهمة المجتمع المدني.

على مستوى السياسات العمومية:

– على مستوى الهيئات الدستورية: تفعيل دور المجلس الاستشاري للأسرة والطّفولة، من خلال التّسريع بإخراجه إلى الوجود، وتعزيز دوره في مراقبة كافّة السّياسات العموميّة التي قد تمسّ من قريب أو بعيد دور الأسرة.

– على مستوى التربية والتعليم: ربط التربية بالتعليم وإعادة الاعتبار لقيم الأسرة في المقررات الدراسية ودورها في النسيج الاجتماعي، بل وتخصيص وحدات تدريسيّة تختص بقضايا الأسرة في الأسلاك الأساسية والإعدادية التأهيلية والثانوية التأهيلية.

– على مستوى الإعلام: تفعيل دور الرّقابة على البرامج والمسلسلات والأفلام التي تهين مؤسّسة الأسرة وتحط من دورها وتتنكر لقيمها، وتطبع مع العلاقات أو الأنماط غير الشّرعية. كما أنّ الإعلام الوطني يجب أن يضطلع بأدواره الكفيلة بتعزيز القيم الأسريّة والتّرابط العائلي.

– على مستوى الرعاية والحماية الاجتماعية: دعم وتأهيل الأرامل والمطلقات والمعلقات والأمّهات العازبات، بالإضافة إلى دعم الأسر التي لا تستطيع إعالة مسنيها، وتفعيل قوانين الكفالة والرّعاية، وسنّ قوانين ترسيخ التّرابط  الأسري مع الآباء عوض الزّج بهم في دور العجزة والمسنين.

– على مستوى القضاء: تأهيل دور الوساطة الاجتماعية، وإرساء دعائم الوساطة القبلية، والارتقاء بها إلى المستوى المؤسساتي الذي يخول لها القيام بالتشخيص والمعاينة والبحث وتقديم التوصيات. بالإضافة الى عدم الاقتصار على سن الزواج كمحدد لإبرام عقد الزوجية، وذلك بإضافة شرط توفر الحد الأدنى من الثقافة الأسرية، ومعاينة الإمكانيات المؤهلة لتحمل أعباء الزواج وضمان استمراره  حسب العرف والمناطق.

– على مستوى المرفق العمومي والخاص: دعم أواصر الترابط الأسري من خلال مؤشرين أساسيين:

– أولهما: تبسيط مساطر الالتحاق من أجل التجمع الأسري بين الزوجين، مع العمل على اعتماد سياسة التوظيف الجهوي  والمحلي إن أمكن.

– ثانيهما: توفير دور الحضانة والتعليم الأولي بالمؤسسات العمومية والخاصة التي توظف النساء بشكل أكبر للتخفيف من مخاطر التفويض الأمومي.

على مستوى المجتمع المدني:

– مع التحولات السياسية التي شهدتها المنطقة، أصبح للمجتمع المدني دور فعال في الفعل السّياسي والاجتماعي. غير أنّه في الوقت الذي نشهد فيه تنامي الجمعيات المدافعة عن حقوق المرأة أو الطّفل، نجد أنّ الجمعيات المرافعة حول قضايا الأسرة لا تزال محدودة في العدد والفعل. لذلك أصبح من اللازم:

–  الاهتمام بهذا النّوع من الجمعيّات ودعم تأسيسها وتمويلها.

– دعم مشاريع التّكوين في مجالات الأسرة والتأهيل الأسري: كتكوين المقبلين على الزّواج، والتّكوين في مجالات الأمومة وتربية الأبناء والعلاقات الزّوجية.

– فتح مسارات لتخريج أطر مختصّة في الإرشاد الأسري، وتكوين المقبلين على الزواج في الجامعات ومراكز التكوين المهني ومعاهد العمل الاجتماعي لدعم الأطر الجمعوية  العاملة في المجال.

– اعتبار الخضوع التكوين القبلي للمقبلين على الزواج  والإلمام بأساسيات الثّقافة الأسرية شرطا مساعدا لإبرام عقد الزواج. 

خلاصة القول، إنّه في عصر متسارع التّغيرات والتّحولات.. والذي تعتبر فيه الأسرة في مهب عولمة قيمها وفق منظور يسعى إلى تركيز قيم الكونيّة.. ومحو كلّ الخصوصيّة والهويات الأصيلة للمجتمعات.. يبقى الخيار أمامنا في القدرة على صياغة نموذج أسري يقطع مع ترسّبات الماضي السّلبية.. ولكن لا يرتمي كليا في أحضان التغيرات الحداثية الاستيلابية.. نموذج أساسه الجوهري تطبعه قيم التراحم والإحسان .. وأساسه التنظيمي تؤطره قيم التعاقد المسؤول.

الهوامش:

(1) مصطلح «الكونية» يشير الى محاولة تعميم نموذج المركزية الغربية و نظرية الهيمنة الشاملة،  دون أي اعتبار للثقافات والخصوصيات المحلية. وإن اكنت أرى أن مصطلح «العالمية» أكثر قبولا لاستحظاره للمشترك الانساني دون تنميط للتنوع والاختلاف، كما يقوم على فكرة المشاركة وليس الهيمنة والأحادية

(2) أنظر موقف علماء الاجتماع الغربيين من الأسرة أمثال: هربرت سبنسر و لستروارد و وليام جراهام سمنر و بيير بورديو.

أضف تعليقك

Leave A Reply

Exit mobile version