(17) هل نجح طوفان الأقصى في الإجهاز استراتيجيا على “الحل الصهيوني” ل “المسألة اليهودية” من المسافة الصفر؟ 

الحبيب الشوباني

 الدكتور الحبيب الشوباني

1- في مواجهة معضلة “المسألة اليهودية” إجرائيا، كتب هرتزل كتابه الذي نشره بالألمانية تحت عنوان: “دولة اليهود: محاولة لإيجاد حل حديث للمسألة اليهودية/Der JudenStaat : Versush einer modernen Lösung der Judenfrage“. مضمون الكتاب يؤكد أنه أصبح متبنيا لأشد الأطروحات تطابقا مع معتقدات الحاخامات الارثودوكس التلموديين، من ذلك قوله في مقدمته: “إن الفكرة التي طورتُها في هذا الكُتَيِّب فكرة قديمة جدا، إنها استعادة (دولة اليهود). العالم يجأر بالصياح ضد اليهود، وهذا الصياح قد أيقظ الفكرة الوَسْنانَة (يعني النائمة)” (1). لقد تحدث هرتزل بنوع من الصوفية الدينية عن حُلْم “استعادة دولة يهودية” عمرها 2000 عام !  وكان واثقا بأن فكرته ستكون موضوع اتهام بالطوباوية من طرف فئات واسعة من اليهود، لذلك حرص منذ البداية على الرد على هذا الاحتمال بعنف وازدراء، وهاجم خصوم فكرته المُفترَضين قائلا: “لن أطنب في إيراد أوصاف لمشروعي منمقة تنميقا فنيا خشية اتهامي بأني أرسم صورة لمدينة طوباوية. وأتوقع، على أية حال، أن يقوم الساخرون الأغبياء بتشويه مخططي وجعله على صورة كاريكاتورية وذلك في محاولة منهم لإيهان أثره” (2).  

2- بعد هذا الدَّفْع الموجَّه لإسكات واستبعاد جمهور اليهود من الطبقة المترفة التي توقَّع أنها لن تُفرط في امتيازاتها الباذخة في المجتمعات الأوروبية، ولن تكون بسبب ذلك سبّاقة لاعتناق أطروحته الصهيونية والهجرة إلى فلسطين لاحتلالها وتحمل ضريبة وكلفة هذه المغامرة، ركز على تبريز صورة بؤساء اليهود، معتبرا إياهم مادته الخام الجاهزة لإنتاج القوة الضرورية لتشغيل محرك “قطار الهجرة اليهودية”. في هذا الصدد، تصرّف هرتزل كأستاذ فيزياء يشرح لليهود درسا في قوانين علم الميكانيك (“علم الحِيَل” في الاصطلاح العلمي العربي القديم)، ليقنعهم بأن فِقْهَ قوانين حركة الأجسام وحسن استثمارها كفيل بتحويل طاقة اليهود المبعثرة إلى قوة دفع منتجة للحركة القاصدة والموجَّهة نحو هدف محدّد، يقول: “مخططي الحالي يضم استخدام قوة دافعة قائمة (..) إن كل شيء يعتمد على قوتنا الدافعة..فما هي قوتنا الدافعة؟ إنها بؤس اليهود ! ومن يجرؤ على إنكار وجوده؟ (..) إن الجميع على اطلاع بظاهرة قوة البخار التي يولدها الماء المغلي فيرفع الغطاء عن إبريق الشاي. ومثلُ هذا محاولات الصهاينة وجمعياتهم الرامية إلى إيقاف اللاسامية عند حد. وإني لأجزم أن هذه القوة إذا استخدمت بشكل صحيح، هي من القدرة بما يكفي لتحريك ماكينة كبيرة لنقل الركاب والسلع؛ فشكل الماكينة هو ذلك الشكل الذي يختاره الناس“(3). 

 3- بهذا القول الفيزيائي الحاسم أجهز هرتزل، بشكل استباقي كمُنظِّر سياسي لا يتجاوز عمره 35 سنة، على مقولات المشككين الذين توقع أنهم سيتهمونه بافتقاد الاتزان العقلي جراء انتقاله المفاجئ من صحفي شاب وكاتب نصوص مسرحية حالمة، إلى صاحب نبوءة سياسية وزعيم تنظيم دولي يريد أن يبعث دولة يهودية من رميم معتقد ديني لم يسبق له أن آمن به أصلا، ويحوله إلى حركة يجد بها حلا سحريا لمعضلة عمرت أكثر من ألفي سنة. بنفس الإصرار والقوة الواثقة أكد هرتزل بأن “الدولة اليهودية أمر جوهري للعالم، لذلك فإنها سوف تتأسس“(4) ! ليس هذا فحسب، بل تنبأ بناءً على تقديره الخاص لظروفه الصحية – التي بثَّها بشكل مُضمر في تلافيف مقدمة كُتيِّبه – بسرعة تحقق فكرته التي قد لا يعيش ليراها واقعا ملموسا في حياته، قائلا: “أنا على قناعة تامة بأنني على صواب، وإن كنت لا أدري هل سأعيش لأرى إثبات ذلك“(5).

 

4- ولتجنيب جمهوره اليهودي المستهدف أي شك مهما كان بسيطا في استحالة تحقق حلم “دولة اليهود”، ختم مقدمته بقوله: “أريد أن أبين بجلاءٍ وقطعيَّةٍ أنني مؤمن بالنتيجة العملية لمخططي وإن كنت لا أستطيع القول أنني اكتشفت الشكل الذي سيتخذه في نهاية المطاف (..) إني أشعر بأن مهمتي تكون قد انتهت بنشر هذا الكتيب، ولن أحمل قلمي مرة أخرى إلا إذا دفعتني إلى ذلك هجمات يشنها المعادون من ذوي الشأن، أو إذا أصبح من الضروري مواجهة اعتراضات غير متوقعة، أو القيام بإزالة الأخطاء (..) هل إنني أسرد ما لا ينطبق على الحال الآن؟ هل أنني سابق لزمني؟ هل أن معاناة اليهود ليست خطيرة بعد بما يكفي؟ سوف نرى. لذا سيتوقف الأمر على اليهود أنفسهم، وهل سيبقى هذا الكتيب السياسي في الوقت الحاضر من قبيل الرومانسي السياسي. ولئن كان الجيل الحاضر أغبى من أن يفهمه فهما صحيحا، فإن جيلا آخر أفضل وأرقى سينشأ لكي يفهمه. إن اليهود الذين يرغبون بدولة لهم، سيحصلون عليها وسيستحقونها ” (6).  

 

5- كتب هرتزل في بعض مذكراته يقارن حالته النفسية وهو يحرر كتيب “دولة اليهود”، بحالة الشاعر الألماني الرومانسي الشهير “إنريش هاينه Heinrich Heine” (1797-1856)، فقال: “لا أتذكر أنني كتبت أبدا أي شيء آخر بمثل تلك الحمية الذهنية. يقول Heine إنه سمع جناحي صقر ترِفّان فوق رأسه حين كتب أشعارا معينة. أنا كذلك سمعت رفيفا مشابها فوق رأسي حين كتبت هذا الكتاب. لقد عملت عليه يوميا حد الإنهاك (..) أسابيع من إنتاج لا يضاهي لم أعد خلالها قادرا على كتابة أفكاري بسكينة وجلاء. كتبت ماشيا، واقفا، ممددا، كتبت في الشوارع، عند تناول وجبات الطعام، وفي الليل حين كانت الكتابة تؤرقني..أنا أعرف الآن وكنت أعرف أيضا خلال هذه الفترة العاصفة كلها من الإنتاج أن كثيرا مما سطرته كان مبلبلا ووهميا. لكنني لم أمارس النقد الذاتي قط لكي لا أعيق تدفق الأفكار. كنت أقول لنفسي إن الوقت سيحين فيما بعد لأطلق العنان لنقد يوضح الغموض”(7).

6- بعد مقدمته المشبعة بروح فكرته ودقة تفاصيل مخططه، وبعد المهاجمَة المركَّزة والاستباقية لاعتراضات خصومه المفترَضين، عرض هرتزل في المحور الثاني من الكتيب تصوره ل”المسألة اليهودية”، مشددا على أن جميع المحاولات السابقة عن مشروعه لحل هذه المشكلة كانت فاشلة لأن مقدامتها كانت خاطئة، وأنه يجب الاعتراف بذلك، ثم الانخراط الجماعي ليهود العالم في توفير الكتلة الحرجة اللازمة لتنفيذ ما صمَّمه ك “حل صهيوني حديث ونهائي للمسألة اليهودية”. أما في المحور الثالث المعنون ب”الشركة اليهودية” فقد باشر بسط الجوانب العملية لتنفيذ المخطط بإحداث شركة مساهمة يهودية (تقوم بعمل تجاري واستثماري بحت في عملية تهجير اليهود، لا مجال فيه للخير والإحسان، بل تجني الأرباح في تلازم مع تحقيق الأهداف المرسومة لها) مقرُّها في لندن وتحت حماية بريطانيا، برأسمال حدده في 50 مليون جنيه إسترليني، مهمتها شراء الأراضي الضرورية لإقامة نواة “دولة اليهود”، وتجهيز المباني للعمال من الطبقة الكادحة لليهود الذين سيشكلون الدفعة الأولى لحركة الهجرة الصهيونية المنظمة(يصطلح على هذه الهجرة نحو “أرض الميعاد” بكلمة  “عليا” / بالعبرية: עלייה، وتعني بالعربية “الصعود”، ويقابله مصطلح آخر عبري هو “يريدا” وتعني “النزول” أي النزوح خارج “أرض إسرائيل”). وبشكل عام، فإن هرتزل حدد مهام “الشركة” في القيام بكل التدابير غير السياسية المرتبطة بتأسيس وإدارة مجتمع يهودي يولد من جديد خارج جيتوهات أوروبا، منظّم ونشيط فلاحيا وصناعيا، ومنتج لاكتفائه الذاتي في أرض الاستيطان الموعودة، وتوفير كافة ضمانات معالجة مخلفات الهجرة في البلدان المصدِّرة، لتخفيف الأضرار المحتملة التي ستلحق بحقوق وممتلكات المهاجرين منها. ولتدبير تعقيدات عمليتي تهجير وتوطين اليهود القادمين من مختلف الدول نحو الوطن القومي الموعود – باستحضار التنوع الثقافي واللغوي وعادات التدين كما تشكلت في مجتمعاتهم الأصلية في أوروبا وأفريقيا وآسيا- خصص المحور الرابع من الكتيب لمعالجة هذه المعضلة تحت عنوان “الجماعات المحلية“. أما المهمة الأصعب التي حملها هرتزل على عاتقه، فتتمثل في إحداث مؤسسة سياسية دولية تقود وتنفذ المشروع سياسيا، لتوفير الحماية اللازمة لعمل “الشركة“، ولتسهيل أدائها لمهامها المرسومة، بالتفاوض والتنسيق مع القوى الدولية والمؤسسات والأشخاص النافذين المعنيين بنجاح المشروع الصهيوني. وقد خصص هرتزل المحور الرابع لهذه المؤسسة تحت عنوان: “جمعية اليهود” و”دولة اليهود”، أوضح فيه بشكل إجرائي مهام “الجمعية” في تدبير المفاوضات مع القوى الدولية لتوفير شروط تأسيس “دولة اليهود”، وحدد فيها علاقتها مع “الشركة” لتحقيق هدف احتلال الأرض؛ كما حدد التوجهات الرئيسية المتعلقة بمسألة وضع دستور للدولة، واختيار لغتها وعلَمِها، وطبيعة النظام السياسي، وموقع الجيش ورجال الدين من صناعة القرار السياسي للدولة،.. إلخ. 

أدى صدور الكتيب بتاريخ 14 فبراير 1896م إلى اندلاع نقاشات قوية في مختلف “الجماعات المحلية اليهودية” عبر العالم، انقسم على إثرها اليهود إلى ثلاث تيارات يحدد ملامحها العامة الموقف من مخطط هرتزل: (أولها) الموقف الرافض لمشروع دولة لليهود خارج أوروبا، مثَّلَه يهود الطبقة الرأسمالية المؤمنة بمكاسب الاندماج في المجتمعات الأوروبية؛ (ثانيها) الموقف المتردد وقد مثَّله اليهود اليساريون الاشتراكيون في روسيا ودول أوروبا الشرقية، وهؤلاء منتظمون في أحزاب عُمّالية مركز ثقلها يوجد في بولندا حيث تعرف باسم “البوند Bund” – لكنها تنسق عملها في إطار “رابطة العمل اليهودي العام” في روسيا وباقي دول أوروبا الشرقية. فهؤلاء “البونديون” كانوا معادين في البداية للصهيونية، ويؤمنون بوحدة الطبقة العاملة على أساس أن الصراع من أجل العدالة الاجتماعية، حسب النظرية الماركسية، صراع طبقي لا علاقة له بالأبعاد الدينية أو عرقيا. لكن هذا التكتل اليهودي الأشكنازي سيتحول تدريجيا إلى أكبر مصْدر لهجرة اليهود إلى فلسطين بعد انتشار فكر صهيوني اشتراكي يعتبر تأسيس الدولة القومية سابق على تأسيس الدولة الاشتراكية، تأثرا بتجربة الصعود القومي الإيطالي التي صاغ أطروحتها “موشي هس Moses Hess” –الفيلسوف الألماني وتلميذ ماركس – في كتابه “روما وأورشليم”. وأخيرا، (ثالثها) الموقف المتحمس لمشروع هرتزل دون تحفظ، وقد مثَّله تيار “العودة إلى صهيون” بثقافته الارثودوكسية المتكئة على التأطير الديني للحاخامات وعموم العلمانيين اليائسين من الاندماج في المجتمعات المسيحية. ورغم أن هذا التيار كان هو الأضعف في بداية الأمر، إلا أنه سرعان ما صار أغلبيا بعد نجاح هرتزل وذراعه الأيمن الطبيب اليهودي الهنغاري “ماكس شمعون نوردو Max Simon Nordau”في تنظيم المؤتمر الأول للحركة الصهيونية العالمية في مدينة بازل بسويسرا في 29 غشت1897م.

(يتبع في المقالة 18)

الهوامش:

(1)تيودور هرتزل، دولة اليهود: محاولة لإيجاد حل حديث للمسألة اليهودية، ترجمة مؤسسة الأبحاث العربية لصاحبها ومؤسسها هاني الهندي، دار البيروني للنشر والتوزيع.

(2) تيودور هرتزل، مرجع سابق، ص:27.

(3) تيودور هرتزل، مرجع سابق، ص:26. 

(4) تيودور هرتزل، مرجع سابق، ص:28.

(5) تيودور هرتزل، مرجع سابق، ص:26.

(6)تيودور هرتزل، مرجع سابق، ص:28.

(7) تيودور هرتزل، مرجع سابق، ص:28.

أضف تعليقك

Leave A Reply

Exit mobile version