الدكتور الحبيب الشوباني
في بيان كيف َأَجْهَزَ طوفان الأقصى استراتيجيا
على “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية” (2/5)
د.الحبيب الشوباني
- من المهم في هذه المقالة الختامية (في خمس حلقات) التأكيد على أن مفهوم “إجهاز طوفان الأقصى على الحل الصهيوني للمسألة اليهودية ” يُقصد به على وجه الدقة العلمية والإجرائية ما يلي: “الإجهاز هو إصابة طوفان الأقصى لأُسُسِ الحل الصهيوني إصابات استراتيجية ذات تداعيات جسيمة على وجوده، وعلى قدرته الذاتية على الاستمرار والهيمنة؛ كونُها إصابات ذات طبيعة تفكيكية للمقومات المعنوية والمادية التي على أساسها قام وجود المشروع الصهيوني في فلسطين كاحتلال استيطاني عنصري، وكقاعدة عسكرية متقدمة للقوى الامبريالية الغربية في قلب العالمين العربي والإسلامي“.
- إن هذه المقومات المعنوية والمادية الوجودية للمشروع الصهيوني تشكل في نفس الآن “منظومة المقاتل الحساسة التسعة (9) للحل الصهيوني للمسألة اليهودية”، والتي استهدفها الطوفان في شمول تداعياته ونتائجه بشكل مباشر، أو غير مباشر. ويمكن بسطُ هذه المقوِّمات/المَقَاتِل كما يلي: (أولا) مقوِّمُ الربط السياسي-الثقافي-العضوي بين “الصهيونية كإيديولوجيا استعمارية استيطانية عنصرية” وبين “اليهودية كدين” له علاقة تاريخية روحية بفلسطين، كالتي نشأت لاحقا للمسيحية والإسلام؛ (ثانيا) مقوِّمُ التحويل الأسطوري-اللاهوتي-الوظيفي ل “الجماعات اليهودية المتعددة عبر العالم” إلى “شعب يهودي خالص عرقيا”، وادعاء انحداره سُلالِيّاً من نبي الله يعقوب/إسرائيل عليه السلام؛ (ثالثا) مقوم الربط الاستعماري-اللاهوتي-الاستيطاني بين “أسطورة شعب يهودي بلا أرض” وبين “أسطورة فلسطين الأرض الموعودة الخالية من الشعب“، التي انتظرت نهضتها العمرانية 2000 سنة ! حتى تحققت مع انطلاق الاستيطان الصهيوني في نهاية القرن 19؛ (رابعا) مقوِّمُ الربط الأمني- الاستيطاني–الدعائي بين مشروع بناء “دولة اليهود الآمنة في فلسطين المحتلة“، وبين ضمان الأمن لهذه الدولة بشعار “قوة جيش الردع الذي يَقهر ولا يُقهر“؛ (خامسا) مقوِّمُ الربط السياسي-الإعلامي-الترهيبي بين الحق في ممارسة واجب “مواجهة وانتقاد سياسات إسرائيل” – كدولة مارقة Etat voyou من منظور القانون الدولي والإنساني- تمارس منذ 76 سنة عدوانا عنصريا بربريا في حق شعب مُحتل، وبين الرمي الممنهج بأسطورة التهمة الجاهزة المسماة “معاداة السامية“؛ (سادسا) مقوِّمُ الربط السياسي-الحضاري-الدعائي بين “جرائم إسرائيل كدولة احتلال استيطاني عنصري” وبين أسطورة “ دولة الديمقراطية وحقوق الإنسان التي تمارس حق الدفاع عن النفس“؛ (سابعا) مقوِّم التوليف السياسي-الدبلوماسي-التفاوضي بين واقع “الخداع الاستراتيجي طويل النَّفَس” بمشاريع التسويات السلمية وبالتطبيع، وبين حصيلة واقع التنفيذ الشرس ل”سياسات إسرائيل الاستيطانية الإحلالية في كل فلسطين“؛ (ثامنا) مقوِّمُ الربط السياسي- الاقتصادي-الترويجي بين “وعود السلم والازدهار الاقتصادي الإقليمي”، بريادة وقيادة دولة الاحتلال العنصري لمجموع الدول والمجتمعات العربية، وبين “اتفاقيات “أبراهام” التطبيعية” المفروضة صهيونيا وأمريكيا بالقوة والابتزاز لتصفية القضية الفلسطينية؛ (تاسعا) مقوم الربط الثقافي-الحضاري-الامبريالي بين “الحضارة المسيحية المعادية تاريخيا ودينيا لليهود“، وبين اختلاق وترويج مصطلح ومفهوم “الحضارة اليهودية – المسيحية”، كعنوان لتحالف استعماري يشن باسم شعوب الغرب حربا حضارية ضد الإسلام وأوطان المسلمين، مؤطرة بخلفية دينية مصطنعة وموجهة لتحقيق أهداف امبريالية واضحة المعالم والأطماع؛
وفيما يلي بيان كيف أجهز طوفان الأقصى استراتيجيا – تَفكيكيّاً على هذه المقوِّمات التسعة؛
- أولا؛ تفكيك العلاقة المصطنعة بين “الصهيونية كإيديولوجيا استعمارية استيطانية عنصرية”، وبين “اليهودية كدين”: لقد حرص الجناح الديني في الحركة الصهيونية العالمية – والذي كان محدودا وهامشيا إبان نشأتها المؤسساتية عقب مؤتمرها الأول في مدينة بازل بسويسرا في 29 غشت1897م- على توثيق عُرى الربط العضوي بين الصهيونية واليهودية، بهدف توظيف أساطير توراتية وتلمودية تصب في تعزيز قوة وجاذبية المشروع الصهيوني، وتساهم في تغيير المعادلة الديمغرافية بمزيد من هجرة يهود العالم للاستيطان في فلسطين، وهدم المسجد الأقصى لبناء الهيكل الثالث على أنقاضه، في أفق تهويد فلسطين تهويدا شاملا؛ وقد تصاعد هذا الحضور والتأثير حتى انتهى قبل 7 أكتوبر 2023 إلى حالة من التطابق شبه التام بين الصهيونية واليهودية، تجسَّد في صعود قوة تيار الصهيونية الدينية، وهيمنته على الحياة السياسية وكافة مفاصل صناعة القرار في “إسرائيل”، مدعوما بتحالف مكشوف من تيار الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية. لقد أجهز طوفان الأقصى استراتيجيا على هذا المسعى، لأنه أنتج خوفا استراتيجيا حقيقيا لدى يهود العالم الذين باتوا متوجسين من مخاطر هذا التطابق الانتحاري بين المشروع الصهيوني، وبين منتوجه الخالص كما عمَّمَته وسائط الثورة الرقمية لصورة “اليهودي/ النازي الجديد”، صانع مشاهد الإبادة النازية في غزة؛ منبع هذا الخوف الاستراتيجي يوجد في التحولات العميقة والواسعة الجارية في منظور الرأي العام العالمي لدولة الكيان الصهيوني كدولة منهارة أخلاقيا بتورطها في جريمة الإبادة، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية. يدل على هذا التحول عدة مؤشرات، أهمها: (أولا) كثافة مشاركة يهود الدول الغربية في الحراك الاحتجاجي العالمي ضد جرائم حرب الإبادة في غزة؛ (ثانيا) حرصهم على رفع شعارات ولافتات تنص بشكل لافت على العبارة التالية “le Sionisme n’est pas le Judaïsme / الصهيونية ليست هي اليهودية/ Zionism is not Judaism “؛ (ثالثا) دعوة عدد كبير من قادة الرأي والفكر اليهود إلى إنقاد اليهودية – كدين عالمي يعتنقه حوالي 9 ملايين إنسان خارج فلسطين المحتلة، و7 ملايين داخلها- من خطر القرصنة والتوظيف السياسي لتيار الصهيونية الدينية؛ ومن أبرز هؤلاء، الحاخام الأمريكي الشهير يعقوب شابيرو Rabbi Yaakov Shapiro الذي ألف كتابا سنة 2018 بعنوان “العربة الفارغة: رحلة الصهيونية من أزمة الهوية إلى سرقة الهوية / The Empty Wagon: Zionism’s journey from identity crisis to identity theft“؛ وهو عبارة عن مرافعة تاريخية ودينية وسياسية وقانونية يتبرأ فيها من أي علاقة عضوية ودينية ليهود العالم بدولة “إسرائيل”. لقد صار هذا الكتاب بعد معركة افتتاح طوفان الأقصى في 7 أكتوبر- وعدد صفحاته 1393 صفحة – مزارا فكريا لليهود يحقق أرقام مبيعات قياسية في “إسرائيل” وفي الغرب، كما صار مؤلِّفه نجما إعلاميا تتسابق القنوات التلفزية والمنصات الرقمية (حواراته على اليوتيوب غزيرة) في مختلف دول الغرب لاستضافته كداعيةِ عقيدةٍ سياسيةٍ جديدة لعصر ما بعد الصهيونية Nouvelle doctrine politique de l’ère post-sionisme ، تَحُثُّ يهود العالم على ضرورة مفاصلة الحركة الصهيونية والكيان الصهيوني مفاصلة جذرية، خوفا على اليهود واليهودية من مستقبل قاتم تجرُّهُم إليه هذه الحركة الاستعمارية الاستيطانية العنصرية العمياء؛ (رابعا) وجود مؤشرات إحصائية رسمية تؤكد أن حوالي 300 ألف يهودي غادروا “إسرائيل” بشكل نهائي منذ 7 أكتوبر، وأن الإقبال على سفارات الدول التي ينحدر منها آباء اليهود المستوطنين في تزايد، لطلب جوازات سفر تضمن أمن التمتع بجنسيتين، بدل الجنسية الاسرائيلية المحفوفة بمخاطر وتهديدات جدية في المستقبل، لأن الصهيونية حولت فلسطين المحتلة إلى “أخطر مكان على أمن اليهود في العالم”، حسب تعبير الحاخام Yaakov Shapiro.
- ثانيا؛ تفكيك العلاقة الأسطورية-اللاهوتية-الوظيفية بين “الجماعات اليهودية المتعددة عبر العالم” وبين أسطورة “شعب يهودي خالص عرقيا”، ينحدر سُلالِيّاً من نبي الله يعقوب/إسرائيل عليه السلام: يؤشر على هذا التفكك حجم المبيعات والاهتمام الذي تصاعد بشكل كبير في المجتمع الصهيوني وفي الغرب، لكتابات مؤرخين صهاينة كشفوا بالعلم حقيقة أنه لم يوجد في التاريخ، على الإطلاق، “شعب يهودي” كما تروج له أدبيات الحركة الصهيونية؛ وأن مصطلح “الجماعات اليهودية” هو التعبير الدقيق علميا لوصف حقيقة الوجود اليهودي دينيا وثقافيا وأنثروبولوجيا في مختلف المجتمعات البشرية عبر التاريخ. كما كشفوا في نفس الاتجاه أن مقولة “يهود الشتات” أسطورة صهيونية خالصة، لأن الفلسطينيين كبقية شعوب البحر الأبيض المتوسط تحولوا تاريخيا من اليهودية إلى المسيحية، ثم إلى الإسلام نسبة غالبة؛ وبذلك يكون الشعب الفلسطيني عرقيا – قبل الانتداب البريطاني وبدء مسلسل الهجرة اليهودية الاستيطانية – بأقليته اليهودية والمسيحية، وبأكثريته المسلمة اليوم، هو الشعب الكنعاني والعبراني الأصيل صاحب الأرض، وليس اليهودي البولندي، أو الروسي، أو الأثيوبي، أو المغربي..إلخ، الذي ينتمي ثقافيا ولغويا وعرقيا لمجتمعات أخرى لا علاقة لها بفلسطين سياسيا وعقاريا. يتصدر هذه العملية التفكيكية كتابات وبحوث علمية عديدة، أبرزها أبحاث المؤرخ الإسرائيلي Shlomo Sand النمساوي الأصل، صاحب كتاب “كيف تم اختراع الشعب اليهودي: من الكتاب المقدس إلى الصهيونيةComment le peuple juif fut inventé :de la Bible au Sionisme “، والذي يحقق أعلى المبيعات في “إسرائيل” لشهور متواصلة (Best-seller)، وتُرجم في مختلف أنحاء العالم؛ كما أن صاحبه حظي بملايين المشاهدات على قناة “اليوتيوب” في برامج حوارية متوفرة بالفرنسية والإنجليزية والعبرية، قبل 7 أكتوبر، وبعده بشكل أقوى. في نفس الاتجاه والاهتمام من طرف نخبة يهود العالم، تندرج كتابات المؤرخ الإسرائيلي ذو الأصول العراقية Avi Shlaim، صاحب كتاب “ثلاثة عوالم: مذكرات يهودي عربي: Three Worlds : Memoirs of an Arab-Jew“؛ في كتابه يفكك المؤرخ Shlaim المقيم في بريطانيا، أسطورة “الشعب اليهودي” وينسفها في يَمِّ علم التاريخ وعلم السياسة نسْفاً، من خلال بحثه الغني حول دور الحركة الصهيونية في تهجير يهود العراق باعتماد منظومة مندمجة من العمليات الإرهابية والصفقات السياسية، وكيف تم اجتثاثهم من وطنهم؟ وكيف تحولوا من عراقيين كاملي المواطنة، إلى درجة ثالثة من المواطنة في الكيان الصهيوني باعتبارهم “جماعة من يهود الشرق”، في مقابل مواطنة الدرجة الأولى التي يحظى بها إلى اليوم يهود أوروبا “الأشكناز”؟ وكيف تم تجريدهم وتجريد أبنائهم من ثقافة أجدادهم العراقيين التي تعتبر جزءا لا يتجزأ من هويتهم منذ آلاف السنين؟.. ولا شك أن واقع يهود المغرب، وأثيوبيا، واليمن، وغيرهم،.. قد تم توظيفهم في نفس الخطة الصهيونية التي سعت لصناعة “شعب يهودي” جيء به لفيفاً من “جماعات يهودية” تم تهجيرها من مختلف الأصقاع، وتم منحه شخصية “شعب يهودي واحد وموحَّد”.. لإخفاء تناقضاته التي زاد طوفان الأقصى من حِدَّة تفاقمها على المستوى النفسي والهوياتي والسياسي الداخلي، ومن هشاشة تماسكه وهو يصيبه في هذا المقتل الحساس.
- ثالثا؛ تفكيك مقوم الربط الاستعماري-اللاهوتي-الاستيطاني بين “أسطورة شعب يهودي خالص بلا أرض” وبين “أسطورة فلسطين الأرض الموعودة الخالية من الشعب“: من الطبيعي أن يؤدي تفكيك العلاقة المصطنعة لأسطورة الربط العضوي المتعسِّف بين الوجود الفعلي ل“الجماعات اليهودية” والوجود الوهمي ل“الشعب اليهودي” في التاريخ، إلى تفكيك أسطورة أخرى مرتبطة بهذه المنظومة الفكرية الصهيونية التي سعت إلى اختلاق شعب لا وجود له على وجه الحقيقة العلمية والدينية والأنثروبولوجية. يتعلق الأمر بسردية تقول بأن “الشعب اليهودي” ظل تائها مشردا منبوذا ومضطهدا لمدة ألفي عام (2000) ! وأنه بفضل الحركة الصهيونية التي اخترعت حلّاً صهيونيا للمسألة اليهودية ،كما نشأت في المجتمعات المسيحية الأوروبية، فقد عرف هذا الشعب طريقه أخيرا إلى أرض فلسطين الفارغة / الخلاء – رغم وجودها في قلب مهد الحضارة الإنسانية، ومهبط الكتب السماوية، وملتقى الطرق التجارية، ورغم شهرتها بخصوبة الأرض ! – والتي ظلت تنتظر “الصعود التوراتي للشعب اليهودي”، منذ أن غادرها أجداده الأولون.. ! في نفس الاتجاه العلمي التفكيكي لهذه الأساطير كما تعززت مع طوفان الأقصى، يُعتبر الإقبال الكثيف على كتاب المؤرخ الإسرائيلي Shlomo Sand “كيف تم اختراع أرض إسرائيل: من الأرض المقدسة إلى الوطن الأم Comment la Terre d’Israel fut inventée : De la Terre sainte à la mère patrie “، وعلى مشاهدة الحوارات الغزيرة بشأنه في القنوات الإعلامية وعلى المنصات الرقمية، من أهم الأدلة على هذا التحول الفكري العميق الجاري في المجتمع الدولي، الأمر الذي يشكل إجهازا استراتيجيا محقّقاً على سردية صهيونية باتت متلاشية وعارية أخلاقيا أمام الضمير الإنساني العالمي الموحَّد في إدانته لحرب الإبادة، كما في تضامنه الإنساني الجارف مع الشعب الفلسطيني/ أيقونة القرن الواحد والعشرين لحرب التحرير ضد الاستعمار والاستكبار والإفساد في الأرض؛
(يتبع في المقالة 27 )