الدكتور الحبيب الشوباني
المقالة الواحدة والعشرون
الأساطير المؤسسة للحل الصهيوني للمسألة اليهودية:
حسب منظور الفيلسوف الفرنسيRoger Garaudy (4/3)
للتذكير والربط، لقد فكك غارودي أسطورة “أسطورة عدالة محكمة نورنبيرغ Le mythe de la justice de Nuremberg ” وبين أنها محكمة عسكرية استثنائية أقامها الحلفاء المنتصرون ضد دول المحور المنهزم، وأنها شكلت امتدادا لأعمال الحرب التي لا يمكن نسبتها لجنس المحاكمات العادلة، مع التأكيد على أن هذا الموقف لا علاقة له بالتقليل من بشاعة الإجرام النازي الذي سحق في محرقته أكثر من 50 مليونا من الألمان، والسلاف الروس والبولنديين، وجنود دول التحالف، والشيوعيين، واليهود، ومسلمي الغرب الإسلامي الذين جندتهم فرنسا الاستعمارية وزجت بهم في مقدمة من اصطدم بآلة الحرب النازية؛ كما أن غارودي فكك أيضا “أسطورة معاداة الصهيونية للفاشية Le mythe de l’antifascisme sioniste ” وبيّن تهافتها من خلال كشف أدلة العلاقات التنسيقية الثابتة تاريخيا ورسميا بين زعماء الحركة الصهيونية وهتلر، كما وثقت ذلك “اتفاقية هَعْفراهHaavara Pact “( הסכם העברה)، التي أُبرمت بين الوكالة اليهودية الصهيونية وألمانيا النازية بتاريخ 25 غشت عام 1933. يتعلق الأمر بصفقة تنظيم عملية تهجير transfert اليهود الألمان إلى فلسطين، مقابل تقديم خدمة كبيرة للاقتصاد الألماني المأزوم بمخلفات حرب 1914، في صيغة تصدير جزء من رؤوس أموال اليهود كبضائع ألمانية لبناء وتجهيز المستوطنات وإقامة البنيات التحتية في فلسطين (قدرت مكاسب الاقتصاد الألماني ساعتئذ ب 22 مليار دولار). وقد هُجِّر بناءً على هذه الاتفاقية حوالي 50000 من “نخبة اليهود المفيدين لتنفيذ الحل الصهيوني للمسألة اليهودية في فلسطين”، تحت إشراف شركة أسست خصيصا لهذه المهمة، تحمل اسم “شركة هعفراه المحدودة“، فيما تُرك باقي “اليهود غير المفيدين” حطبا للمحرقة النازية؛
بنفس البيان والتفكيك والتركيب الموضوعي، واصل غارودي في كتابه ” Les Mythes Fondateurs de la Politique Israélienne” عملية التجريف العلمي للأساطير التي قام عليها الوجود الفكري والسياسي للاحتلال الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، بتفكيك الأسطورة الثالثة التي سماها “أسطورة “الملايين الستة” (الهولوكوست) Le mythe des “six millions” (L’Holocauste)”، والتي تم توظيفها من طرف الحركة الصهيونية كأصل تجاري لابتزاز ألمانيا وعموم بلدان الغرب، لإجبارهم على تمويل احتلال فلسطين وإبادة الشعب الفلسطيني، واستدامة الإمداد بأسباب الوجود والتفوق، بالمال والتكنولوجيا والسلاح، وبتبني ودعم سياسات الكيان الصهيوني، المصنفة مارقةً بمرجعية المواثيق الدولية والقيم الإنسانية.
توقف غارودي عند ثلاثة مصطلحات شائعة في توصيف ما تعرض له اليهود عل يد النازيين، وهي: الإبادة Génocide، الهولوكوستHolocauste ، المحرقةShoah . بدأ بتفكيك مفردة “الإبادة” التي تستعملها الحركة الصهيونية ليبين أنها غير دقيقة لا معجميا ولا تاريخيا بمرجعية نصوصهم التوراتية. (أولا) وحسب معجم لاروس Larousse ، فالإبادة génocide تعرّف بأنها “التدمير الممنهج لمجموعة عرقية عن طريق إفناء أفرادها/ destruction méthodique d’un groupe ethnique par l’extermination de ses individus ” (ص:83)؛ (ثانيا)، وبحسب مرجعية النصوص التوراتية فالإبادة تعني “الإبادة المقدسة”، بحيث “لا يمكن تطبيق هذا التعريف حرفيًا إلا في حالة غزو كنعان بواسطة يشوع، حيث قيل لنا عن كل مدينة تم فتحها: “لم يبق فيها أحد من الناجين” (على سبيل المثال في العدد الحادي والعشرون، 35)/ Cette définition ne peut s’appliquer à la lettre que dans le cas de la conquête de Canaan par Josué, où il nous est dit pour chaque ville conquise : “il n’en reste aucun survivant” (par exemple dans Nombres XXI, 35).. (ص:83).
بالإضافة إلى الاعتراض على استعمال مصطلح الإبادة بمرجعية القاموس والنص التوراتي، ينفُذ نظر غارودي في إلماعَةٍ لافتة، إلى إشكال أعمق مدسوس في تلافيف هذا الاستعمال إذ يقول: “مع افتراض وجود “العرق” اليهودي كما تزعم العنصرية الهتيلرية، وكما لا يزال القادة الإسرائيليون يتبنون ذلك/ A supposer qu’il existât une “race” juive, comme le prétendait le racisme hitlérien et comme le soutiennent encore les dirigeants israéliens”(ص:83). وهو ما يعني أن التسليم غير العلمي بصحة اصطلاح “إبادة اليهود” تسليم بصحة ادعاء وجود “عرق يهودي race juive” تعرض للإبادة، والحال أن “اليهود” عنوان جامع لجماعات دينية شديدة الاختلاف المذهبي والتنوع العرقي والثقافي واللغوي منذ وجد التديُّن اليهودي في مختلف القارات وبين مختلف الأمم وشعوب الأرض. بكلمة، لقد صدع غارودي بالقول أن النازيين لم يبيدوا “عرقا يهوديا”، لأنه غير موجود أصلا ! ولكنهم خلّفوا وراءهم حصيلة مأساوية من القتلى في حرب مسعورة تجاوز عدد ضحاياها 50 مليون نفس بشرية، من مختلف قوميات أوروبا، ومن مختلف المِللِ والنِّحَلِ التي سيقَتْ لأَتونِ هذه المحرقة الأوروبية ..فبأي حق، ولأي غاية إذن يُخلَّد ذكر ضحايا اليهود، في مقابل رمي مآسي من ليسوا يهودا في غياهب النسيان والازدراء؟
يمسك غارودي بخيط هذا السؤال الدقيق، ويتتبعه مُتَقَصِّيا ومتسائلا عن خلفية وجود تراتبيةٍ لقيمة الأرواح البشرية hiérarchisation de la valeur des vies humaines التي خلفتها حرب 1945؟ ولماذا تم اختزال جحيم مأساوي بشري فاق عدد ضحاياه 50 مليون آدمي في الجدل حول رقم 6 ملايين يهودي من ضحايا المحرقة النازية؟ ولماذا تظافرت جهود آلة الدعاية الصهيونية والغربية من أجل عملية غسل عالمية لأدمغة البشر بجعل “الأسطورة محط انشغال الجميع: الحديث عن أكبر إبادة في تاريخ البشرية Le mythe faisait l’affaire de tout le monde : parler du “plus grand génocide de l’histoire” ؟ (ص:86)؛ يجيب غارودي عن هذا السؤال بقوله:[كان الهدف بالنسبة للمستعمرين الغربيين هو جعل الناس ينسون جرائمهم: (إبادة الهنود الأمريكيين وتجارة العبيد الأفارقة)، وبالنسبة لستالين، محو أثر قمعه الوحشي. وبالنسبة للقادة الأنجلو-أمريكيين، بعد مذبحة دريسدن في 13 فبراير 1945 التي خلفت ، في بضع ساعات، مقتل 200 ألف مدني بلهيب القنابل الفسفورية، ودون سبب عسكري، لأن الجيش الألماني كان يتراجع في كامل خطوط الجبهة الشرقية أمام الهجوم الخاطف للسوفييت الذين وصلوا إلى نهر “أودر ” في يناير. أما بالنسبة للولايات المتحدة، فالأمر أنكى، لقد أسقطوا قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناكازاكي، مما تسبب في “أكثر من 200 ألف وفاة وما يقرب من 150 ألف جريح”/c’était, pour les colonialistes occidentaux, faire oublier leurs propres crimes : (la décimation des Indiens d’Amérique et la traite des esclaves africains), pour Staline, gommer ses répressions sauvages. Pour les dirigeants anglo-américains, après le massacre de Dresde du 13 février 1945, qui fit périr dans les flammes, par les bombes au phosphore, en quelques heures, 200.000 civils, sans raison militaire puisque l’armée allemande battait en retraite sur tout le front de l’Est devant l’offensive foudroyante des soviétiques qui en janvier étaient déjà sur l’Oder. Pour les Etats-Unis, plus encore, qui venaient de lâcher sur Hiroshima et Nagasaki, les bombes atomiques, faisant “plus de 200.000 tués et près de 150.000 blessés]. (ص:84).
بناء عليه، يوضح غارودي الخلفيات الثقافية المتحكمة في استعمال مصطلح الهولوكوست Holocauste في الثقافة الغربية، للحديث عن ضحايا اليهود دون سواهم من قتلى حرب 1945. فالهولوكوست كلمة يونانية الأصل (holókaustos) تطلق على إحراق القرابين المقدمة للآلهة إحراقا كاملا (holó = الكُل، وkaustos = محروق). يقول غارودي: [“الهولوكوست” تشير بشكل أفضل إلى الرغبة في جعل ارتكاب الجريمة ضد اليهود حدثا استثنائيا لا يمكن مقارنته بمذابح الضحايا الآخرين للنازية، ولا حتى مع أي جريمة أخرى في التاريخ، لأن معاناة اليهود وموتهم يكتسيان طابعا مقدسا / “L’Holocauste”, marque mieux encore la volonté de faire du crime commis contre les juifs un événement exceptionnel sans comparaison possible avec les massacres des autres victimes du nazisme ni même avec aucun autre crime de l’histoire, car leurs souffrances et leurs morts avaient ainsi un caractère sacral.] (ص:86). ولا شك أن هذا التعامل الاستثنائي مع قتلى اليهود دون سواهم، هو الذي يفسر لماذا لا يجد أحد أحبار اليهود أي تناقض في ربطه اللاهوتي بين الإجرام النازي في حق اليهود، وبين إجرام اليهود الصهاينة في حق الشعب الفلسطيني باحتلال أرضه والسعي لإبادته، بقوله(ص:86): “إن إنشاء دولة إسرائيل هو جواب الإله على الهولوكوست “La création de l’Etat d’Israël, c’est la réponse de Dieu à l’Holocauste.”
رغم هذا “الامتياز” في إضفاء هالة خاصة على قتلى اليهود دون سواهم، بتخصيصهم بمصطلح “الهولوكوست” اليوناني الأصل، إلا أنهم تطلعوا إلى الاستفراد بمفردة عبرية خالصة لا يشاركهم فيها أحد، ومن تم جرى في أدبيات اليهود وخطاباتهم نبذ مصطلح “الهولوكوست” لصالح مصطلح “المحرقة Shoah“، لاحتمال تقاسمه مع أقوام آخرين من الغوييم/الأغيار الأقل درجة في سلم الآدمية، وهو أمر ينفُر منه اليهود دينيا. فالمحرقة/ Shoah مفردة عبرية ( שואה ) تعني “الكارثة”، وقد وظفها لأول مرة رجل القانون اليهودي البولوني رافائيل ليمكين (1900-1959) Raphael Lemkin في العام 1943، في إطار عملية الاستبدال المصطلحي للتخلي عن “Holocauste” أو الإبادة النازية” لصالح “Shoah”. يشرح فلسفة هذا الاختيار الصهيوني الفرنسيJacques Sebag في مقالة له بعنوان “Pour en finir avec le mot Holocauste”، نشرها في جريدة Le Monde بتاريخ 25 يناير 2005 بقوله: [المحرقة، لأن أصلها العبري يسمح على الفور بالتعرف على الضحية، في حين أن الإبادة الجماعية النازية تَذكُر المعتدي وتُحدِّد الجاني.المحرقة تُفصح عن يهودية الضحية، وتؤكد عن حق، خصوصيتها الدينية والثقافية Shoah, parce que son origine hébraïque permet immédiatement d’identifier la victime, alors que génocide nazi cite l’agresseur, et désigne le coupable. Shoah dit la judéité de la victime et souligne, à juste titre, sa spécificité religieuse et culturelle] (1).
يختم غارودي تنقيبه العلمي في أحشاء الأسطورة الثالثة فينتهي إلى كشف حالة الاضطراب والتناقض المحيطة بالحكايات المنسوجة عن عدد اليهود ضحايا الحرب النازية، ويسجل أنها تبدأ من 9 ملايين يهودي لتصل إلى مليون ومئتين وخمسين ألفا ! يقول غارودي: ” [بالنسبة لمعسكر أوشفيتز-بيركيناو وحده: 9 ملايين، في عام 1955، يحكي فيلم آلان رينيه “الليل والضباب” (..) 8 ملايين بحسب وثائق خدمة تاريخ الحرب. معسكرات الاعتقال (..) 4 مليون حسب التقرير السوفييتي الذي منحته محكمة نورنبيرغ قيمة الحجة الشرعية بموجب المادة 21 من نظامها الأساسي (..) 2 مليون بحسب المؤرخ ليون بولياكوف، في “كتاب صلوات الكراهية” (..) ) 1 مليون ومئتان وخمسون ألفاً بحسب المؤرخ راؤول هيلبرج في كتابه “تدمير يهود أوروبا” (..)./ Pour le seul camp d’Auschwitz-Birkenau : 9 millions disait, en 1955, le film d’Alain Resnais Nuit et Brouillard (..) 8 millions selon les Documents pour servir l’Histoire de la guerre. Camps de concentration (..) 4 millions d’après le rapport soviétique auquel le Tribunal de Nuremberg a donné valeur de preuve authentique en vertu de l’article 21 de ses statuts(..) 2 millions selon l’historien Léon Poliakov, dans son Bréviaire de la haine (..) 1 million deux cent cinquante mille, .(ص:88). [selon l’historien Raul Hilberg dans La Destruction des Juifs d’Europe(..).
الهوامش: