الهوية في مفترق الطرق: من تراجع الخصوبة إلى رهانات الهجرة!

بقلم: طه رياضي، طالب في القانون والعلوم السياسية، بوردو فرنسا.

في زمن التحولات الديموغرافية المتسارعة، لم يعد تراجع الخصوبة مجرد مؤشر اجتماعي، بل تحوّل إلى قضية سياسية بامتياز. فتقلّص عدد المواليد وارتفاع نسبة الشيخوخة لا يؤثران فقط على الاقتصاد وسوق الشغل، بل يمسّان عمق الهوية الوطنية ويفتحان الباب أمام جدل واسع حول الهجرة، الاندماج، والتماسك المجتمعي. وإذا كانت دول مثل فرنسا وإيطاليا تعيش هذا التحدي منذ عقود، فإن المغرب يدخل بدوره هذه الدوامة بعد نتائج الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2024.

أولًا، تعاني العديد من الدول من اختلال ديموغرافي متزايد، عنوانه الأبرز: تراجع معدل الخصوبة.

في فرنسا، انخفض المعدل إلى 1.68 طفل لكل امرأة، ما دفع الحكومات إلى تعزيز السياسات الأسرية، دون أن يحقق ذلك النتائج المرجوة. فالتوتر بين ضرورة استقبال مهاجرين لتعويض النقص السكاني، وبين صعود خطابات اليمين المحافظ، يعكس أزمة عميقة في تصور الهوية الفرنسية نفسها.

إيطاليا بدورها تُجسد صورة أوضح للأزمة: بمعدل خصوبة لا يتجاوز 1.2، تواجه البلاد هجرة عكسية من القرى نحو المدن، وشيخوخة شاملة تعرقل النمو. رغم الحاجة الملحة للمهاجرين، تتعثر سياسات الإدماج، ويزداد الخطاب الرافض للآخر. النتيجة: مجتمع منغلق يشيخ دون بديل واضح.

أما ألمانيا، ورغم قوتها الاقتصادية وتفوقها الصناعي، فإنها تواجه بدورها تراجعًا ديموغرافيًا مقلقًا، حيث لا يتجاوز معدل الخصوبة 1.5 طفل لكل امرأة. ولتعويض هذا النقص، تبنّت سياسة استقبال واسعة للمهاجرين، خاصة منذ سنة 2015، غير أن صعوبات الاندماج، وتصاعد الحركات الشعبوية واليمينية، كشفت هشاشة التماسك الثقافي والاجتماعي، وأعادت طرح سؤال الهوية في مجتمع يتجه تدريجيًا نحو التعددية الإثنية والدينية.

هذه التجارب الثلاث تكشف عن معضلة مشتركة: كيف يمكن للدول أن تواجه التراجع الديموغرافي دون أن تفرّط في ثوابتها الثقافية وهويتها الوطنية؟ وما السبيل إلى التوفيق بين ضرورات الانفتاح ومتطلبات الحفاظ على الانسجام الداخلي؟

أما المغرب، فقد دخل رسميًا مرحلة الخطر بعد أن كشف إحصاء 2024 عن تراجع معدل الخصوبة إلى 1.97 طفل لكل امرأة، مع انخفاض نسبة الأطفال دون 15 سنة وارتفاع وتيرة الشيخوخة. هذه الأرقام، وإن كانت حديثة العهد، تُنبئ بأن المملكة ستواجه خلال عقدين فقط نفس الإكراهات التي تعاني منها أوروبا اليوم: كتلة ضعيفة من السكان النشيطين، حاجة متزايدة للعمالة، وضغط على منظومة التقاعد والصحة.

في هذا السياق، قد يجد المغرب نفسه مضطرًا هو الآخر إلى استقبال مهاجرين لسد الخصاص، ما يطرح السؤال المحوري: كيف نوازن بين الانفتاح الضروري والتشبث بالهوية الوطنية؟ وكيف نبني سياسات ديموغرافية قائمة على دعم الأسرة، وتحفيز الشباب، بدل استيراد الحلول من الخارج؟

إن تراجع الخصوبة ليس قدرًا محتوماً، بل نتيجة مباشرة لتحولات اجتماعية واقتصادية كان يمكن توقعها. لكن خطورتها تكمن في انعكاسها السياسي العميق: فحين تضعف الفئة النشيطة، وتُستورد اليد العاملة، يُعاد تشكيل الهرم الثقافي واللغوي والديني للمجتمع، مما قد يضعف الانسجام الوطني ويهدد المشروع المجتمعي. من هنا، فإن رهان الدولة الذكية ليس فقط في ضبط أرقام الإحصاء، بل في توجيه السياسات العمومية نحو استباق الخلل، وتحصين الهوية، وبناء مستقبل ديموغرافي متوازن، يضمن الاستقرار دون الانغلاق، والانفتاح دون الذوبان.

أضف تعليقك

Leave A Reply

Exit mobile version