المعادن الخام الحيوية في المغرب: فرصة للتصنيع أم ساحة معركة جيوسياسية بين الصين والغرب؟

إيمان الزهواني*

يشهد المغرب توجهاً متسارعاً في السنوات الأخيرة نحو تعزيز شراكاته الاقتصادية مع الصين، لاسيما في مجال الصناعات المرتبطة بالطاقة النظيفة.  إذ أصبح أبرز الوجهات الإفريقية للاستثمارات الصينية واسعة النطاق في إنتاج بطاريات السيارات الكهربائية، مما يعكس طموح المملكة إلى تعزيز موقعها كفاعل محوري في سلاسل القيمة الصناعية العالمية.

ويمكن ربط هذا التحول الاستراتيجي بالزيارة الرسمية التي قام بها الملك محمد السادس إلى بكين سنة 2016، والتي مثّلت لحظة فارقة في مسارالعلاقات المغربية الصينية، إذ شهدت توقيع اتفاقيات مهمة أرست أسس شراكة متعددة الأبعاد.

ومع ذلك، يطرح هذا التوجه تساؤلات عميقة حول طبيعة هذه الشراكة: هل يُمكن اعتبارها فرصة حقيقية لتحقيق التصنيع ونقل التكنولوجيا، أم أن المغرب يجد نفسه في موقع هش ضمن تنافس جيوسياسي محتدم بين الصين والقوى الغربية؟

في ورقة بحثية صادرة عن المعهد العابر للحدود الوطنية  (TNI)، يستعرض الباحث المغربي علي أموزاي تموضع المغرب في سياق التنافس العالمي المتصاعد على المعادن الاستراتيجية الضرورية للانتقال إلى الطاقة الخضراء، ولا سيما تلك المستخدمة في إنتاج بطاريات السيارات الكهربائية.

تحت عنوان ” المعادن الخام الحيوية في المغرب: فرصة للتصنيع أم ساحة معركة جيوسياسية بين الصين والغرب؟ “، تسلط الورقة الضوء على التحول الكبير الذي يشهده المغرب، حيث بات يُمثل وجهة رئيسية للاستثمارات في مجال تكريرهذه المعادن الحيوية.

وتُبرز الدراسة أن الشركات الصينية تتصدر هذا المجال، ما يجعل من المغرب فاعلًا استراتيجيًا في سلاسل الإمداد العالمية الجديدة، ولكن في الوقت نفسه، يثير هذا التموضع تساؤلات عميقة حول مدى استفادة المغرب من هذه الدينامية، وهل يشكل ذلك فرصة حقيقية لتعزيز التصنيع المحلي ونقل التكنولوجيا، أم أنه يعكس انخراط البلاد في لعبة توازنات جيوسياسية معقّدة بين الصين والقوى الغربية.

يأتي هذا التحليل في وقت أعلنت فيه العديد من كبرى الشركات الصينية المتخصصة في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية عن استثمارات ضخمة في المغرب، ما يعكس التموقع المتصاعد للمملكة في سلاسل التوريد العالمية للانتقال الطاقي.

ففي سبتمبر 2023، أعلنت شركة CNGR Advanced Material Co., Ltd (المركز الوطني الصيني لتنمية الموارد الطبيعية) عن خطة استثمارية بقيمة ملياري دولار لإنشاء ما وصفته بـ ” قاعدة صناعية عالمية ومنصة إقليمية في منطقة المحيط الأطلسي”، وذلك في منطقة الجرف الأصفر، ضمن مشروع مشترك مع مجموعة Al Mada  الاستثمارية التابعة للعائلة الملكية المغربية.

وفي يونيو من العام نفسه، وقّعت شركة Gotion High-Tech الصينية – الألمانية صفقة مع المغرب بقيمة 6.4 مليارات دولار لإنشاء أول مصنع لإنتاج بطاريات السيارات الكهربائية في إفريقيا، في منطقة بوقنادل قرب العاصمة الرباط، بطاقة إنتاجية سنوية تُقدّر بنحو 100 جيجاوات/ساعة.

كما شهد شهرمارس 2024 توقيع اتفاقية استثمار بين وزارة الاقتصاد والمالية المغربية ومجموعة BTR New Material Group Co., Ltd.، لإنشاء مصنع جديد للبطاريات في المنطقة الصناعية بمدينة طنجة للسيارات، باستثمار يفوق 3 مليارات دولار.

وتعكس هذه الاستثمارات المتسارعة الرهانات الكبرى التي تحيط بموقع المغرب في المشهد الصناعي العالمي، وتفتح المجال لمساءلة ما إذا كان هذا الانخراط يعزز فعليًا التصنيع المحلي والسيادة الصناعية، أم أنه يكرّس تبعية جديدة ضمن صراع جيوسياسي دولي.

المغرب: بوابة الصين نحو الغرب

يرى الباحث علي أموزاي أن الاستثمارات الصينية الواسعة في المغرب لا يمكن فصلها عن الاستراتيجية الأوسع التي تنتهجها بكين للالتفاف على القيود التجارية المتزايدة، خصوصًا تلك التي فرضتها الولايات المتحدة في سياق الحرب التجارية المتصاعدة بين الطرفين.

ويشير أموزاي إلى أن إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن عن ” قانون خفض التضخم” (Inflation Reduction Act)  شكّل نقطة تحول، حيث دفع الصين إلى البحث عن شراكات مع دول تملك إمكانية وصول مفتوح إلى السوق الأمريكية، ولا سيما تلك التي تربطها اتفاقيات تجارة حرة مع واشنطن.

وفي هذا السياق، يُمثّل المغرب، عبر اتفاقية التجارة الحرة التي تربطه بالولايات المتحدة، بوابة استراتيجية تتيح للشركات الصينية التمتع بمزايا مالية تصل إلى 7500 دولار أمريكي لكل سيارة كهربائية يتم إنتاجها باستخدام مواد أولية مصدرها دول “صديقة “، بحسب ما يُطلق عليه خبراء الصناعة. “Friend-shoring

 وتُبرز الورقة البحثية أن المغرب يحتل موقعًا متقدمًا في سوق المعادن الحيوية، حيث يأتي في المرتبة التاسعة عالميًا من حيث إنتاج الكوبالت، والمرتبة الحادية عشرة من حيث احتياطاته، كما يُعدّ ثاني أكبر منتج في إفريقيا بعد جمهورية الكونغو الديمقراطية.

علاوة على ذلك، يمتلك المغرب 70% من احتياطيات الفوسفات العالمية، والتي تُستخدم في تصنيع نوع من بطاريات السيارات الكهربائية منخفضة التكلفة، مما يعزز موقعه كمزود استراتيجي في سلاسل الإمداد العالمية المرتبطة بالانتقال الطاقي.

الواقع وراء وعود الاستثمار

في الوقت الذي روّجت فيه الحكومة المغربية للاستثمارات الصينية بوصفها محفزًا للنمو الاقتصادي والتنمية الصناعية، يطرح الباحث علي أموزاي تساؤلات حول الفوائد الفعلية لهذه المشاريع.

فعلى سبيل المثال، أعلن وزير الاستثمار آنذاك، محسن الجزولي، أن شركة “غوتيون هاي-تيك ستوفر 30 ألف فرصة عمل في عشر سنوات، إلا أن أموزاي يشكك في دقة هذه التقديرات، معتبرًا أنها ربما تكون مبالغًا فيها.

ويؤكد الباحث أن التوظيف الدائم يُعدّ من الشروط الأساسية لتحقيق انتقال طاقي عادل، إلا أن التجربة المغربية تشير إلى أن فرص العمل التي تم خلقها مؤخرًا تعتمد بشكل كبير على الاستعانة بمصادر خارجية أو التعاقد من الباطن، مما يؤدي إلى هشاشة في سوق العمل. ويُضيف أن قوانين العمل المرنة، التي بدأ تطبيقها منذ أكثر من عشرين عامًا، ساهمت في تعميق هذه الهشاشة.

كما يشير أموزاي إلى أن المشاريع الكبرى، كمحطات الطاقة المتجددة، تعتمد على استثمارات رأسمالية ضخمة، وتوفّر فرص عمل محدودة غالبًا ما تتركّز في مرحلة البناء. وما إن تنتهي هذه المرحلة، حتى تختفي غالبية الوظائف، ولا يبقى سوى عدد محدود من فرص العمل التي تتطلب مهارات عالية، ما يحدّ من الأثر التنموي المباشر على سوق العمل المحلي.

التبعية والموقع الاستراتيجي

تجادل الورقة البحثية بأن استراتيجية المغرب القائمة على دمج الاقتصاد الوطني في شبكات رأس المال العالمية واستغلال التنافس بين القوى الكبرى لا تؤدي إلى تحقيق التصنيع الحقيقي، بل تقتصر على تعزيز مكانته ضمن التقسيم الدولي الحالي للعمل.

ويوضح الباحث علي أموزاي أن اقتصاد المغرب لا يزال صغيرًا مقارنة بدول أفريقية أخرى، حيث يحتل المرتبة السادسة في أفريقيا من حيث الناتج المحلي الإجمالي، متأخرًا عن إثيوبيا والجزائر وجنوب أفريقيا ونيجيريا ومصر، كما يعتمد بشكل رئيسي على الزراعة واستخراج المواد الخام.

 ويشكك أموزاي في قدرة الاستثمارات الأجنبية على نقل التكنولوجيا وتعزيز السيادة الصناعية، معتبرًا أن اعتماد المغرب على المراكز الاستعمارية يتجلى في تكرار مصطلحات “السيادة الاقتصادية”، و”السيادة الطاقية”، و”السيادة الغذائية” في وثائق الدولة الحديثة دون تحقيق فعلي لهذه السيادة.

ويبرز التحليل تناقضًا في النهج المغربي، حيث تعتمد الدولة ورؤوس الأموال الكبرى على الاستثمارات الأجنبية لتجاوز بعض العوائق الاقتصادية، في حين يتقبل العائق السياسي، المتمثل في النظام السياسي المغربي، من قبل رؤوس الأموال المحلية والأجنبية الكبرى والمؤسسات المالية الدولية، باعتباره الضامن للاستقرار السياسي والاجتماعي في منطقة متوترة.

ويشير أموزاي إلى أن رأس المال المغربي الكبير المعولم، المرتبط بالنظام الملكي، يمتلك حصصًا مضمونة في الاستثمارات في المعادن الحيوية والاستراتيجية، مما يجعله غير معني بفرض شروط مثل نقل التكنولوجيا التي من شأنها تعزيز التصنيع المحلي.

المخاوف البيئية

يشكك الباحث علي أموزاي في المصداقية البيئية للاستثمارات الصينية في المغرب، موضحًا أن الهدف الأساسي لرأس المال المغربي والدولة من تبني الخطاب الأخضر هو الحصول على تمويلات خضراء ملتزمة دوليًا، بالإضافة إلى الإشارة إلى تكيف المغرب مع التحولات التي تشهدها جارتها الشمالية، خاصة بعد اعتماد الاتحاد الأوروبي لاتفاقية التعاون الاقتصادي بين المغرب والصين. ويضيف أموزاي أن دافعًا رئيسيًا آخر هو تجنب العقبات التي قد تعيق قدرة الشركات المغربية على دخول السوق الأوروبية.

يشير التحليل إلى أن اختيار الشركات الصينية للمغرب جاء جزئيًا لتجنب اللوائح البيئية الصارمة في أوروبا. فقد صرح ثورستن لارس، الرئيس التنفيذي للمجلس الوطني للتصنيع الأخضر في أوروبا، بأن الحصول على التصاريح البيئية في أوروبا يستغرق عدة سنوات ويتطلب إجراءات قضائية واستئنافات، بينما حقق المجلس في المغرب تقدمًا ملحوظًا في شهر واحد.

ويختتم التقرير بتوصيات تدعو إلى تبني سياسة تصنيع أخضر قائمة على الطلب المحلي بدلاً من الاعتماد على استراتيجية التصدير فقط.  كما يوصي التقرير ببرامج صناعية عامة، والتركيز على احتياجات الطاقة المحلية، وتغييرات في التخطيط الحضري، وتعزيز التعاون على مستوى المغرب العربي.

ويخلص أموزاي إلى القول ” يمكن للطاقة، بغض النظر عن مصدرها، أن تساهم في بناء مستقبل أكثر خضرة وعدالة اجتماعية للمغرب، لكن الطاقة ليست مستقلة عن البنية الاقتصادية العالمية، وإطارها الاجتماعي، ومؤسساتها الحكومية، ومختلف أشكال القمع التي تتخللها.”

* إيمان الزهواني طالبة باحثة في العلاقات الصينية الافريقية، جامعة كالياري – إيطاليا .

أضف تعليقك

Leave A Reply

Exit mobile version