(02) هل نجح طوفان الأقصى في الإجهاز استراتيجيا على “الحل الصهيوني” ل”المسألة اليهودية” من المسافة الصفر؟

الحبيب الشوباني

 الدكتور الحبيب الشوباني

المقالة الثانية

  1. الثورة الرقمية تُعَوْلِمُ صورة “الصهيوني النازي الجديد” صانع “الهولوكوست الفلسطيني” 

       مكنت ثورة التواصل الرقمي المعولِم للخبر من النقل الحي والمباشر لفظاعات “معسكر اعتقال أوشفيتز  غزة 2023-2024  camp de concentration Auschwitz Gazaوهو نقل مباشر صنعت به مشاهد “الهولوكوست الفلسطينيholocauste palestinien  “وجدانا إنسانيا عالميا عابرا للحدود والثقافات، بسبب التقاسم اللحظي لملايير البشر مشاعرَ الذهول والاشمئزاز التي تجتاحهم وتوحدهم ضد ممارسات “الصهيوني النازي الجديد“، ومعاينة رعب مشاعر الكراهية النفسية العميقة المتفجرة ضد الصهيوني المخادِع والمستهتر بمشاعر العالم، المتنكر لدروس وعِبَر مظلومية “اليهودي ضحية النازي الأوروبي“، والمسؤول بلا رادع من قانون أو أخلاق أو قيم عن مآسي “الفلسطيني ضحية الحل الصهيوني للمسألة اليهودية” على مدار 75 سنة من الاحتلال والعذابات والممارسات العنصرية.  قوة زلزال هذا التحول سجلت في الدول التي اعتاد الناس فيها ممارسة حرية التعبير والاحتجاج، حيث لوحظ بشكل لافت أن الانفجار الأكبر لهذه المشاعر حصل في المجتمعات الغربية، والتي ظل وعيها مغمورا في سرديات الحركة الصهيونية عقودا طويلة؛ على الرغم من مظاهر التضييق التي حاولت الحكومات من خلالها حجب هذه المشاعر الطافحة في المسيرات الضخمة والتعبيرات الفنية والمجتمعية المختلفة. 

      لقد أكدت وقائع الحرب على غزة – معززة بتصريحات كثير من عقلاء المفكرين اليهود في سياق ما بعد 7 أكتوبر- على خطورة المأزق الوجودي الجديد الذي حُشر فيه اليهود الصهاينة نتيجة الاستدراج التاريخي الذي قادتهم إليه عقيدة “الحل النهائي للمسألة اليهودية” كما آمنت به الحركة الصهيونية وما زالت تسعى إليه، جاعلة منه عنوانا لعبقريتها وانتصارها، بِزَعْمها أن فلسطين أرض خالصة لليهود، وأن بلوغ هذا المسعى يمر حتما عبر تصفية قضية الشعب الفلسطيني بالإخضاع، والقتل، والتهجير، والإبادة. يبدو المشهد اليوم مختلفا تماما،  هو أقرب ما يكون في قتامته ومأساويته لدى عموم الصهاينة إلى اكتشاف خدعة تاريخية لحل مزيف لا يقل خطورة عن تصور الحركة النازية ل “الحل النهائي للمسألة اليهودية” كما صاغه وبشَّر به منظروها في ألمانيا، ونفّذ تفاصيله المرعبة سياسيون وعسكريون نازيون بقيادة هتلر في الحرب العالمية الثانية. 

        بعبارة أوضح، وبعد إفلاس “مشاريع السلام” ، يتأكد كل يوم أن “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية” أصبح عبئا ثقيلا على أصحابه وداعميه قبل خصومه، لأن كل مؤشراته باتت تُنبِّه إلى وجود مخاطر محقَّقة على  مصالح ومستقبل من يربط به مصيره أو ينخرط فيه طوعا أو كرها، ولأنه أصبح من منظور عالمي إنساني يكتسي طابع الشراكة غير الأخلاقية في كل ما ينتج من فظاعات ومآسي عن هذا “الحل/المأزق“، ولأنه أيضا يرمز إلى حالة غير مقبولة من الشرود السياسي سيسوق حتما من اتبع سرابه وهواه إلى الهاوية؛ يؤكد هذا الشعور المتفشي والمعلَن عند كثير من قادة الغرب اليوم، مشاهد المواجهة العسكرية وأوضاع الإبادة الإنسانية في غزة، وكذا الاحتقان النفسي العالمي في تطوراته التراجيدية التي كثَّفَها مشهد انتحار الجندي الأمريكي “آرون بوشنل” حرقا أمام “سفارة الحل الصهيوني للمسألة اليهودية” يوم الأحد  25 فبراير 2024 بالعاصمة واشنطن، في إدانة تاريخية ملحمية للشراكة الكاملة وغير الأخلاقية للإدارة الأمريكية في جرائم الإبادة بغزة.  من زاوية أخرى فلسطينية هذه المرة، يبدو المشهد وكأن المقاومة الفلسطينية يوم 7 أكتوبر كانت تدرك بشكل دقيق أهداف  مشروعها الذي يمكن وصفه ب “الحل النهائي للمشكلة الفلسطينية” بعد التخلي الرسمي العربي عن ربط وجوده بهذه “المشكلة“، جاعلة من طوفان الأقصى “ضربة القرن” الموجَّهة للمَقاتل الأساسية للمشروع الصهيوني المتمدد، والصاعِق  المفجِّر لحرب تحرير طويلة النفس ضد آخر استعمار استيطاني عرفته البشرية؛ عنصر المباغتَة في تفجير شرارة الطوفان أربك بلا خلاف حسابات مهندسي “السرعة الحرجة “ vitesse critique  لتنفيذ مخطط  “الدفن الأبدي للقضية الفلسطينية” ، وهي  السرعة التي يتغير بها “تدفق الأحداث l’écoulement des événements” ليصبح تدفقا غزيرا   ومتسارعا نحو مصبِّ التفرغ لإقامة طقوس ترسيم “الحل النهائي للمسألة اليهودية“، والتي بدأت ممهداتها الأولى في عهد الرئيس ترامب ب “صفقة القرن” ؛ ثم بالتخلي المفاجئ عن سياسة أمريكية قائمة منذ عقود تجاه وضع القدس، والإعلان عن الاعتراف بها عاصمة للدولة الصهيونية، في تحد مغامر وغير عقلاني للتحذيرات المنبعثة من مختلف أنحاء العالم جراء المآلات الخطيرة المنظرة لهذا الاعتراف؛ ثم بِجَرِّ جل الدول العربية وتكبيلها ب “اتفاقيات التطبيع” بالإكراه والضغوط واستغلال تناقضاتها التي تتغذى من تخلفها الديمقراطي، ضدا على إرادة شعوبها ومشاعرها وانحيازها المطلق لمظلومية أشقائهم الفلسطينيين؛  وصولا لتتويج هذا المسار الاستعلائي بلحظة المناقشة العامة في الانعقاد رقم 78 للجمعية العامة للأمم المتحدة في شتنبر 2023،حيث خاطب “نتنياهو” ممثلي أمم الأرض بنشوة وثقة كبيرتين، وهو يقدم مفهومه الصهيوني ل “الشرق الأوسط الجديد” ، تُلخِّصه خريطةٌ أظهرَ فيها مناطق باللون الأخضر(تضم دول مصر والسودان والإمارات والسعودية والبحرين والأردن)، في مقابل اللون الأزرق الذي يرمز ل”إسرائيل“، بما في ذلك الضفة الغربية وقطاع غزة، ودون أي إشارة تُذكر لفلسطين ودولتها، في تحد انتحاري للشعب الفلسطيني ولمقررات المنظمة التي يقف خطيبا على منصتها. كانت قسمات نتنياهو وزهْوُه المُعلن يقولان للعالم بوسائل الإيضاح المدرسية، أن اللحظة التي يقف فيها على منصة الأمم المتحدة لحظة تاريخية لا تقل أهمية عن لحظة “إعلان تأسيس “إسرائيل” في 14 مايو 1948” ثماني (8) ساعات قبل انتهاء الانتداب البريطاني، لكنه على أهميته حَلٌّ جُزئي وتأسيسي ل”المسألة اليهودية“، وأن يوم “22 شتنبر 2023 هو تاريخ إعلان الحل النهائي” لهذه المسألة، وأن موازين القوة هي وحدها التي حسمت نتائج الصراع، منبِّها بأستاذية لا تخلو من تجاهل للتاريخ وجهل بالواقع، إلى “أن العالم يواجه اختيارا مهما اليوم بين تحقيق السلام التاريخي وما يتبعه من ازدهار وأمل، أو لعنة الحرب المروعة للإرهاب واليأس” ، مقدما تبريره الصهيوني الجديد لتاريخ فشل كل التسويات في تحقيق السلام بالمنطقة، محملا مسؤولية الفشل للعرب الذين ظلوا أسرى “الفيتو الفلسطيني” ، أي ارتهانهم  للفكرة الخاطئة التي مفادها “أن الدول العربية لن تطبع علاقاتها مع إسرائيل إذا لم يتم أولا إبرام اتفاق سلام مع الفلسطينيين“. بجرة قلمه التاريخية على الخريطة ومن على المنصة الأممية، رسم نتنياهو “قناة بن غوريون” التي اعتبرها أهم مشاريع “الشرق الأوسط الجديد” بقيادة الكيان الصهيوني لصناعة بحبوحة الرفاه الاقتصادي للجميع، وهي قناة ملاحية تخترق غزة ضمن مشروع سككي عملاق عابر للقارات، يمتد من الهند نحو أوروبا مرورا بدول شبه جزيرة العرب. لم يخطر ببال نتنياهو أنه بعد عشرين يوما (20) بالتمام والكمال من خطابه في الأمم المتحدة، سيكون أمام مشهدٍ صنعته “لعنة الحرب المروعة للإرهاب واليأس” كما قال، لأن الفلسطينيين رأوا في جرة قلمه على الخريطة، وشطبه لفلسطين منها، إرهابا وغرورا وعُلُوا كبيرا لا يمكن مواجهته باليأس، بل بالطوفان.

         من المهم الانتباه في هذه السردية المركزة للتعالق الرمزي، وللفاصل الزمني أيضا، الموجود كلاهما بين تاريخ الجمعة 22 شتنبر 2023 الموافق للإعلان الثاني لما يمكن وصفه ب “تأسيس إسرائيل الكبرى” من منصة الأمم المتحدة على لسان “نتنياهو”، وتاريخ السبت 7 أكتوبر 2023 الذي أجابت به المقاومة على هذا الإعلان برسالة انفجار الوضع الفلسطيني المضغوط بالاحتلال والازدراء، في صورة “طوفان الأقصى” ، وهي تحولات أعادت “المسألة اليهودية” إلى نقطة الصفر، وجعلت المواجهة مفتوحة بين الكيان الصهيوني والفلسطينيين والرأي العام العالمي، من المسافة الصفر. 

  1.    في استيعاب تحولات ومآلات الحلول المقترحة ل”المسألة اليهودية” تاريخا وحاضرا 

      تأسيسا على ما سبق، سيكون من المفيد فكريا وسياسيا مقاربة الإجابة عن السؤال/عنوان المقالة، بمجموعة من التساؤلات التمهيدية، بمثابة أسئلة جوهرية مؤطرة لوعي تحولات المسألة اليهودية تاريخا وحاضرا،  وهي خمس أسئلة نصوغها كما يلي: 

1. لماذا وكيف نشأت وتطورت “المسألة اليهودية “ la question juiveفي الفكر السياسي الغربي كمقولة سياسية ارتبطت بتاريخ ظاهرة المنبوذية والاضطهاد الذي عانى منه اليهود في الدول والمجتمعات المسيحية الكاثوليكية، وفي البروتستانتية بشكل أخف، في أوروبا قديما؟ ثم لاحقا في زمن صعود النزعات القومية المتطرفة، قبل انعتاقهم بعد تراجع سلطة الكهنوت الديني تحت تأثير فكر الأنوار والحداثة؟ 

2. لماذا وكيف تمت معالجة “المسألة اليهودية” بالكتابة والتأليف المباشر عنها من طرف مفكرين يهود كبار – باستثناء المفكر المسلم مالك بن نبي (1)- منهم الفيلسوف اليهودي الفرنسي المُعَمِّر Edgar Morin(2) (1921-…) ، ومن سبقه إلى ذلك مثل : Bruno Bauer(1809-1882),Karl Marx(3) (1818-1883), Werner Sombart (1863-1943), Max Weber (1864-1924), Jean-Paul Sartre(4) (1905-1980), Abraham Léo (1918-1944). ؟ 

3. ما علاقة الرّحم الموجودة بين مقولة “معاداة السامية “antisémitisme ، ومقولة “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية” ؟ وكيف استثمرت الحركة الصهيونية المقولة الأولى لتحصين “إسرائيل” بثلاث “حصانات استثنائية” في تاريخ العلاقات الدولية: ( أولا ) “حصانة العِصْمة  ” Immunité d’Infaillibilité التي تجعلها مُنزّهَة عن ارتكاب الانتهاكات، لأنها في حالة أزلية من “الدفاع عن النفس”légitime défense؛ و( ثانيا ) “حصانة عدم المساءلة”Immunité de non redevabilité   عندما تكون موضوع شكوى ضد الانتهاكات المرتكبة؛ و( ثالثا ) “حصانة الإفلات من العقاب  “Immunité de l’Impunité، عندما يتم إثبات الأضرار الجسيمة للانتهاكات، لأن وضعها الاعتباري (كضحية أزلية للحل النازي النهائي للمسألة اليهودية)، وموازين القوة التي تُسند هذا الاعتقاد، يجعلها فوق كل الشرائع والقوانين الدولية والإنسانية التي تجري على “الغوييم/الأغيار” فقط؟  

4. ما حدود الحل الصهيوني المزعوم ل”المسألة اليهودية” بعد انفجار طوفان الأقصى؟ وما مصير منظومة الرصد والاستهداف الداعمة لهذا الحل، والمسماة “تهمة معاداة السامية” بعد 75 سنة من التوظيف، وبعد معاينة العالم لمحارق “الإبادة الصهيونية النازية للغزاويين“، وما فجرته من براكين كراهية خطيرة ضد اليهود في مختلف المجتمعات والثقافات؟ 

5. ما هي مآلات المواجهة الوجودية المندلعة بين “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية” الذي يبدو اليوم أكثر عزلة وهشاشة من أي وقت مضى، وبين “حل المقاومة الفلسطينية للمشكلة الفلسطينية” ، كما جسده طوفان الأقصى كتجلي لانطلاقة جديدة لحرب التحرير والعودة، في مناخ احتضان وتفهم عالمي غير مسبوق لحقوق الفلسطينيين، شكل انقلابا جذريا في الموازين النفسية والمعنوية والمادية والجغرافية والتاريخية للصراع بين “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية” و “الحل الفلسطيني للمشكلة الفلسطينية” ؟   

(يتبع..المقالة الثالثة)

الهوامش: 

  1. مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي: المسألة اليهودية، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى،1433ه/ 2012م.

(2 Edgar Morin, Le monde moderne et la question juive, Paris, Seuil, 2006.

(3 Karl Marx, La question juive : suivi de La question juive par Bruno Bauer, édité en 1843, réédité par Union générale d’Éditions, Paris , 1968.

(4 Jean-Paul Sartre, Réflexions sur la question juive, Gallimard, 1946.

أضف تعليقك

Leave A Reply

Exit mobile version