(03) هل نجح طوفان الأقصى في الإجهاز استراتيجيا على “الحل الصهيوني” ل”المسألة اليهودية” من المسافة الصفر؟

الحبيب الشوباني

 الدكتور الحبيب الشوباني 

المقالة الثالثة

محطات أساسية في تاريخ “المسألة اليهودية”:  من القرون الوسطى إلى مشارف عصر التنوير الأوروبي

  1. قبل حوالي أقل من 20 قرنا، ومنذ أن اندفعت موجات يهود الشتات diaspora juive نحو أوروبا، كانت المجتمعات الأوروبية تعيش حياة دينية مسيحية منسجمة، قبل أن تنشأ فيها “جيوب/أحياء/ ghetto” هؤلاء اليهود وتتوسع فيها تجمعاتهم المعزولة ب”سلطة النَّبْذ بالإكراه“، لأن اليهود في اعتقاد عموم المسيحيين مُلاحَقونَ ب”تهمة قتل” من يؤمن به المسيحيون أنه “الرب الواحد يسوع المسيح”؛ وهم بذلك ليسوا مُذنبين فقط في مِخْيالِهم الشعبي العام، بل قادرون على ارتكاب أسواء الجرائم والشرور. 
  2. في مقابل هذا التجريم المسيحي المؤبد لليهود، انطوت صدور اليهود أيضا تجاه من ليس يهوديا على اعتقاد ديني مُغلقfermé، كونُه (أولا) فوقي واستعلائي condescendant، لأن اليهود يعتقدون أنهم “شعب الله المختار اصطفاهم ليصلح بهم العالم، كما جاء في سِفْرِ التَّثْنية  (2:14): “لأَنَّكَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ، وَقَدِ اخْتَارَكَ الرَّبُّ لِكَيْ تَكُونَ لَهُ شَعْب خَاصًّا فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ“؛ وكونه (ثانيا) يتعلق بدين غير تبشيري non prosélytique، أي أن الدين اليهودي لا يمكن أن يكون موضوع دعوة يعتنقها عموم الناس بالتبشير، لأنه خاص باليهودي أصلا ونسبا؛ 
  3. شكل مفهوم “الغوي/ גוי “جمع “غوييم גויים” التي تعني “الأغيار Autres/l’altérité”، حاجزا منيعا ضد التعايش التمازجي لليهودي مع الآخر/المخالف العقائدي.  فالمفهوم يستبطن تصورا دينيا لدرجة دُنيا من البشر، تحتمل أن تكون حيوانات توصف بالقذارة أو بالمخلوقات الكريهة، كما جاء في سِفْر اللاويين  (24:20-26):وَقُلْتُ لَكُمْ: تَرِثُونَ أَنْتُمْ أَرْضَهُمْ، وَأَنَا أُعْطِيكُمْ إِيَّاهَا لِتَرِثُوهَا، أَرْض تَفِيضُ لَبَن وَعَسَلًا. أَنَا الرَّبُّ إِلهُكُمُ الَّذِي مَيَّزَكُمْ مِنَ الشُّعُوبِ. فَتُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْبَهَائِمِ الطَّاهِرَةِ وَالنَّجِسَةِ، وَبَيْنَ الطُّيُورِ النَّجِسَةِ وَالطَّاهِرَةِ. فَلاَ تُدَنِّسُوا نُفُوسَكُمْ بِالْبَهَائِمِ وَالطُّيُورِ، وَلاَ بِكُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ مِمَّا مَيَّزْتُهُ لَكُمْ لِيَكُونَ نَجِسًا. وَتَكُونُونَ لِى قِدِّيسِينَ لأَنِّى قُدُّوسٌ أَنَا الرَّبُّ، وَقَدْ مَيَّزْتُكُمْ مِنَ الشُّعُوبِ لِتَكُونُوا لِي”.
  4. تضافر الاعتقادان كلاهما في تعزيز انغلاق اليهود وفصلهم عن المسيحيين، فنشأت أعراف اجتماعية يُحظَر بسلطانها الزواج المختلط، ويُجرَّم بموجبها التبادل الفكري، ويُضيَّق بها على خدمات ومِهَن اليهود؛ وبذلك، كما قال الفيلسوف اليهوديEdgar Morin  “يمكن فهم البقاء اليهودي المذهل من خلال هذه الحلقة التي يُصان فيها الانغلاق اليهودي le judaïsme fermé، بمعاداة اليهودية l’antijudaïsme، وتُصان فيها المعاداة بالانغلاق” (1). 
  5. خلال ألف عام من زمن القرون الوسطى، وبسبب هذه الحلقة المُحْكَمَة الناتجة عن نظرة التجريم المسيحي لليهود، والنظرة الاستعلائية لليهود تجاه المسيحيين، نشأت وتكرست في أوروبا ثقافة “معاداة اليهود لاعتبارات دينية   antijudaïsme pour des raisons théologiques“. تواصل هذا العداء في الممالك الأوروبية الغربية على وجه الخصوص، فأنتج ممارسات الاضطهاد والطرد ومصادرة الممتلكات، على فترات متباعدة، لكن منتظمة ودورية كقانون كوني اجتماعي في علاقة اليهود بالمجتمعات المسيحية.
  6. حصل هذا الأمر بطرد اليهود من المملكة البريطانية عام 1290م على يد الملك إدوارد الأول1er   Edward؛ وتجدد نفس المصير في فرنسا، إبان حكم الملك فيليب السادس Philippe VI (dit le Bel) عام 1306م، ثم في عهد الملك شارل السادس Charles VI عام 1394م، ومنعوا من دخول المملكة الفرنسية لمدة قرنين من الزمن. وفي حملة منسَّقة مع الاسبان، قام الملك البرتغالي إيمانويل Emanuel 1er  عام 1497 بطرد اليهود اللاجئين من إسبانيا والمقيمين فيها منذ قرون على السواء، وتم استقبالهم في مجتمعات الغرب الإسلامي بشمال إفريقيا، فيما توجهت كتل منهم نحو أوروبا الشرقية . 
  7.  شكلت شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال حاليا) حالة استثناء حضارية في عصرها الإسلامي، بحيث ظل اليهود متعايشين في سلم مع الغالبية المسلمة حتى سقوط غرناطة (1492م)، وخروج من لم يتنصَّر من المسلمين واليهود على السواء، بسبب إرهاب التطهير الديني لمحاكم التفتيش في إسبانيا. 
  8. ابتداء من القرن 16 و17 الميلاديين، بدأ اليهود يستفيدون تدريجيا من هوامش التنوع والتعدد التي أنتجتها حركة الإصلاح الديني بزعامة مارتن لوتر (1483-1546) والانقسام الحاد في المجتمعات المسيحية بين الأغلبية الكاثوليكية والأقليات البروتستانتية التي فرضت وجودها بعد ما يقرب من قرنين من الزمان من الحروب الأهلية والدينية، والتي لم تضع أوزارها إلا بتوقيع “صلح وستفاليا Traités de Westphalie” في 24 أكتوبر 1648 بألمانيا، والتي عملت مقرراتها على تحقيق السلام والتوازن في أوروبا، ووضع حد لحرب الثلاثين عاما (1618-1648)، وتسوية النزاعات بين الأوروبيين بشكل عام، والنزاعات الدينية بشكل خاص.
  9. عزز السلم الأوروبي والاعتراف بالكنائس البروتستانتية فرص عودة اليهود للمملكة البريطانية في القرن السابع عشر بسبب صعود تأثير التيار الديني لجماعة les puritains (البيوريتانيون/التطهيريون)، وهم مسيحيون بروتستانت نشطوا بشكل كبير في القرنين السادس عشر والثامن عشر ل “تطهيرpurification ” الكنائس الأنغليكانية (كنائس البلاد الأنجلوسكسونية) من الممارسات الكاثوليكية التي يعتقدون بأنها لم تَنْأَ بنفسها عنها بشكل كافٍ. 
  10. لا يؤمن هؤلاء البروتستانت البيوريتانيون بوجود الأسرار السبعة التي عند الكاثوليك، ولا بكتاب وطقوس صلاتهم، ولا بالملابس الكهنوتية، ولا بتراتبية ونظام الأساقفة والرهبان، كما لا يؤمنون بسلطة البابا ويعتبرون ملك بريطانيا رئيسا رمزيا للتدين البروتستانتي الذي يُعتبر كل مؤمن مسؤولا عنه في علاقته بربه؛ لكن المهم أنهم لا يرون مانعا من الانفتاح على مراجع الدين اليهودي.
  11. في معارضتهم الشديدة للتراث الكهنوتي الكاثوليكي المعروف بمفاصلته العدائية لأي تقارب إيماني أو عقدي مع اليهود “قتلة المسيح“، لم يَرَ البروتستانت البيوريتانيون مانعا من قراءة “العهد القديم/التوراة“، مادام “العهد الجديد/الإنجيل” امتداد للعهد القديم؛ يجد هذا الاجتهاد الفقهي أصوله في مقولة لزعيم حركة الإصلاح الديني البروتستانتي الألماني مارتن لوتر التي يعتبر فيها أن “البروتستانتية يهودية جديدة” ليُثبت علاقة الاتصال والانفصال التي جاء بها إصلاحه الديني: اتصال المسيحية البروتستانتية بالعهد القديم/الدين الموسوي، وانفصالها عن المسيحية المحرفة/الكاثوليكية.
  12.  بالطبع، لم يحصل نفس الانفتاح من اليهود على الانجيل لسببين: ديني وتاريخي؛ (دينيا) لأنهم يعتبرون قانون الإيمان المسيحي مجردُ هرطقةِ غوييم، وهو القانون الذي يتعبد به المسيحيون بتردادهم لعبارة “نؤمن برب واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساو للآب في الجوهر، الذي به كان كل شئ“؛ (تاريخيا) لأن هذه التحولات العلائقية بين اليهودية والبروتستانتية لم تنشأ من تفاعل فكري أو حوار ديني أو تعايش مباشر بين اليهود المعزولين أو المضطهدين، وبين المسيحيين البروتستانت، بل كانت ثمرة اجتهاد فقهي متمرد وذو نفس احتجاجي لهؤلاء puritains ضد الفقه الكاثوليكي في مسألة الانفتاح على العهد القديم .
  13. من المهم لفت الانتباه إلى أن الصهيونية السياسية المعاصرة تستمد دعمها الديني القوي من العلاقة التاريخية التي نشأت في القرن 17م من التلقيح التوراتي للتدين البروتستانتي، عبر عنه مالك بن نبي ب “لدغة العقرب”، يقصد “تلقيح الفكر اليهودي للعقل المسيحي“، والتي أنتجت ما يوصف عند المسيحيين الكاثوليك على سبيل القَدْح والذَّم، ب”الهرطقات التهويدية hérésies judaïsantes” المتعلقة أساسا بتبني البروتستانت ل”النبوءات التوراتية لفناء العالم les prophéties de l’Apocalypse“. هذا التلقيح يفسر مقولة أن الحضارة الغربية “حضارة يهوديةمسيحية civilisation judéochrétienne” على الرغم من العلاقة العدائية المستحكمة لقرون بين اليهود والمسيحيين.
  14.   أهم النبوءات التي جسدت نتائج عملية التلقيح بعد “لدغة العقرب” هي نبوءة اقتران عودة المسيح المخلِّص بعودة اليهود من شتاتهم إلى “أرض الميعاد/فلسطين”. وهذا المعطى من العوامل الأساسية في تحليل وفهم التبني السياسي ل”الحل الصهيوني للمسألة اليهودية” بالدعم اللامحدود في المجتمعات المسيحية البروتستانتية للسياسات الصهيونية في فلسطين المحتلة (الولايات المتحدة الامريكية نموذجا)، لأنه دعم ذو خلفية عقدية، ولا يخفي أصوليته الدينية، أي أنه يتطابق مع “الحل الديني البروتستانتي للمسألة اليهودية“.
  15.  عكس أوروبا الغربية، عاش اليهود في أوروبا الوسطى والشرقية استقرارا نسبيا بسبب التسامح العرقي والديني الذي تميزت به مملكة بولندا التي نشأت عام 1025، وتوسعت في إطار الكومونولث البولندي-الليتواني عام 1569، قبل أفولها عام 1772، وتقاسم أراضيها بين الامبراطورية الروسية ومملكة بروسيا وملَكية هابسبورغ. أدى هذا التفكك إلى دخول أكبر تجمع لليهود في أوروبا الشرقية في حالة تماس مباشر مع الروس الارثودوكس. (يفسر هذا المعطى التاريخي الدور الذي لعبته هجرة يهود بولندا في احتلال فلسطين في ثلاثينيات القرن الماضي (بلغ عددهم سنة 1938 حوالي 3.5 مليون نسمة، حوالي 11% من سكان بولندا، وشكلوا حوالي 40% من سكان العاصمة وارسو).
  16. بدأت متاعب اليهود مع روسيا القيصرية الارثودوكسية الكارهة لوجودهم فيها، بعد ضمِّهم إليها نتيجة لتوسعها في أراضي بولندا. سبب المتاعب يعود إلى استعلائهم الديني الثابت، وانغلاقهم الاجتماعي في الغيتوهات؛ ثم بسبب اعتبارات متغيرة اقتصادية تجلت في انزعاج الفلاحين من استحواذهم على كراء الأراضي الفلاحية الشاسعة من النبلاء المتفرغين للسياسة والحرب، واحتكار إنتاج وترويج الخمور، واتهامهم بممارسات مثيرة لحفيظة التجار الروس كونها مضرة بالتنافس بسبب المضاربات العقارية والتجارية والتهرب الضريبي. جعلتهم هذه الممارسات في المخيال الروسي الرسمي والشعبي العام طبقة مغلقة وذات حسابات خاصة مرتبطة بالجشع والفساد. لكن الحدث السياسي الأبرز الذي جلب لليهود المذبحة le pogrom والممارسات الأكثر إيلاما في روسيا القيصرية، كان اتهامهم بالتورط في اغتيال القيصر ألكسندر الثاني في 13 مارس 1881. 
  17. بشكل عام عاش اليهود خلال القرون الوسطى في المجتمعات المسيحية صعوبات جسيمة في الاندماج والتعايش، تُلَخَّصُ بثنائية “الانغلاق – والمعاداة”، وهو ما يفسر ما يسمى ب”القلق الفندقي stress hôtelier” الملازم للحالة النفسية اليهودية إزاء علاقتهم بالأوطان التي تقودهم الأحداث المتقلبة باستمرار للاستقرار فيها، وهي عبارة عن حالة نفسية تغذي الجاهزية الدائمة للمغادرة عند أول شعور بقلق أي خطر وجودي، وهو شعور نفسي تاريخي ملازم للشخصية اليهودية، يجعل الوطن الحقيقي لليهودي المتجول هو عقيدته المشبعة بفكرة “أرض الميعاد“، والتي يستقل بها ولا يتقاسمها مع الآخر/الغوييم، لأن طبيعتها لا تحتمل أي عمل تبشيري من شأنه تسهيل عملية الدمج والاندماج على غرار المسيحية أو الإسلام.  

(يتبع ..المقالة الرابعة)

الهوامش:

 Edgar Morin, op.cit. p :26 (1)

أضف تعليقك

Leave A Reply

Exit mobile version