(8) هل نجح طوفان الأقصى في الإجهاز استراتيجيا على “الحل الصهيوني” ل”المسألة اليهودية” من المسافة الصفر؟

الحبيب الشوباني

 الدكتور الحبيب الشوباني

المقالة الثامنة

المسألة اليهودية من خلال نصوص أدبية ومواقف ثلة مفكري التنوير الأوروبي

قبل فتح ملف المقالات الخاصة ب”الحل الصهيوني للمسألة اليهودية” كما تبلور نظريا وعمليا مع ميلاد تنظيمات الحركة الصهيونية نهاية القرن 19، سنختم سردية المقالات السابقة عن تمظهرات “المسألة اليهودية” في عصر الأنوار بوقفة مع عينة معبرة من النصوص الأدبية والسياسية ذات القيمة التاريخية، واستعراض مواقف ثلة من المفكرين الصانعين لعصر الأنوار،  وكلاهما يشترك في إبراز ثقل “المسألة اليهودية” في تراث التاريخ الأوروبي في الأدب كما في السياسة، وفي الفكر  كما في الفلسفة، وهو ثقل يعكس انشغال الضمير والعقل الأوروبي بسؤال أزلي تقول صياغته: هل الطبيعة الشريرة لليهودي هي سبب اضطهاده وازدرائه ومنبوذيته، أم إن الاضطهاد والازدراء والمنبوذية هو ما يجعل منه كائنا شريرا؟ 

      عند التنقيب، نجد أن النصوص الأدبية والسياسية ترْشَحُ بأجوبة عميقة وفلسفية مصبوبة في قالب فني أو في خطاب سياسي أو موقف فكري، تعكس بشكل غلّاب قلق الضمير والوجدان التاريخي الأوروبي من “اليهودي الشرير“، وأحيانا نادرة قلقهما عليه ! لكن كلاهما (القلق منه والقلق عليه) يلتقيان في الانزعاج من وجوده المُشْكِل، وفي تمني إيجاد حل نهائي لهذا الوجود غير الطبيعي..أي لمعضلة “المسألة اليهودية”. نصُّنا الأول المختار، يتعلق بالرواية الشهيرة “تاجر البندقية The Merchant of Venice (1) التي كتبها عبقري الأدب الإنجليزي William Shakespeare (1554- 1616) في العام 1596م، ونُشرت سنة 1600م. كُتبت المسرحية في جو مشحون بالعداء لليهود، بسبب قضية إعدام الطبيب اليهودي البرتغالي   Rodrigo Lopezعام 1594 بتهمة الخيانة العظمى. فقد جرت عادة اليهود في بريطانيا منذ طردهم منها في عهد الملك إدوارد الأول المتوفي سنة 1307م، أنهم يتحولون ظاهريا للمسيحية حتى يحافظوا على وجودهم ومصالحهم، مع استمرار ممارسة شعائرهم اليهودية في السر والكتمان.  Rodrigo أحد هؤلاء اليهود البرتغاليين الذين استقروا في لندن. بعد تظاهره باعتناق المسيحية، ارتقى في مهامه الطبية حتى اتخذته الملكة إليزابيث الأولى طبيبا رئيسا لفريقها الطبي الخاص. وفي العام 1592م حضر إلى لندن “الدون أنطونيو“/Don Antoine, prieur de Crato(1535-1595) في أزمة الخلافة على العرش البرتغالي التي اندلعت عام 1580م، للمطالبة بالمُلك. استعان Antoine  Donباليهودي البرتغالي طبيب الملكة لتحقيق غايته. لكن لسوء حظ Rodrigo أنه أقحم مصالح خاصة له في صفقة الوساطة، اتُّهم على إثرها بمحاولة تسميم المطالب بالعرش والملكة إليزابيث معا. وقد حكم عليه بالإعدام بتهمة الخيانة العظمى، ونفذ الحكم في 7يونيو 1594م. 

        ما يعنينا في السياق، أن شكسبير مشهود له كأشهر مؤلف مسرحي عرفه التاريخ ذو عبقرية خاصة في إبراز خلجات النفس البشرية من خلال البناء الدرامي للمسرح الكوميدي والتراجيدي على السواء. وقد استحضر في هذا العمل الروائي العالمي “المسألة اليهودية” في شخص أحد أبطال المسرحية، التاجر اليهودي المرابي “شايلوك Shylock“، كاشفا طبائعه النفسية “كَوَغْدٍ وكعدو للإنسانية” من خلال أفعاله وتصرفاته، قبل أن تتحول مع الزمن هذه الصورة إلى “صورة الضحية البائسة لمشاعر العداء للسامية بعد ظهور النازية“. ورغم أن جل النقاد لا يعتبرون مسرحية “تاجر البندقية” – بمشاهدها العشرين – من نفس قيمة مسرحية “هاملتHamlet ” إلا أنها نافستها من حيث الإقبال على مشاهدتها في مختلف المسارح العالمية، وظلت لقرون تغري أكبر المسرحيين العالميين بأداء أدوار أبطالها، حتى إن الكاتب والممثل المسرحي الإيرلندي Charles Macklin   (1699-1797) لعب دور اليهودي “شايلوك” لمدة خمسين عاما، وظهر فيه لآخر مرة في سن التاسعة والتسعين من عمره ! 

        تدور أحداث المسرحية في مدينة البندقية الإيطالية، وتتمحور حول شخصيتين رئيسيتين هما التاجر المسيحي الكبير “أنطونيو“، وصديقه الحميم “بسانيو” سليل أسرة من نبلاء المدينة. فقَد “بسانيو” ثروته في الوقت الذي احتاج فيه إلى التقدم لخطبة حبيبته “بورشيا” ابنة ثري مات مخلِّفا لها ثروة كبيرة. طلب “بسانيو” من صديقه “أنطونيو” إقراضه مبلغا من المال يتقَوَّمُ به لما هو مُقبل عليه. رحب “أنطونيو” بطلب “بسانيو” ترحيبا كبيرا، لكن مشكلته أن أمواله عالقة في البحر على متن سفنه التي تحمل تجارته، وأنه لا يستطيع توقع زمن عودتها لمرافئ المدينة ليقرضه. لذلك عرض عليه التوسط عند التاجر اليهودي العجوز “شايلوك” لاقتراض المبلغ. كان اليهودي معروفا بقروض الربا الفاحش، وبسوء أخلاقه، ويُكِنُّ كُرها شديدا للتاجر المسيحي الثري “أنطونيو”، ليس لأنه مسيحي فقط، ولكن لأنه كان يقرض الناس بدون ربا. وافق “شايلوك” على إقراض المبلغ المطلوب مقابل شرط غريب: لم يطلب رِباً فاحشا عن القرض كعادته، ولكنه اشترط رَطْلَ لحم حيٍّ يقتطعه من جسد “أنطونيو” إذا لم يُحضر المبلغ في الأجل المحدد. رغم إحساس “أنطونيو” بوجود المكر والسوء في شرط العجوز “شايلوك” الذي يضمر له الشر والكراهية، إلا أن ثقته في وصول سفنه المحملة بأمواله قبل حلول أجل السداد، جعله يغامر بقبول هذا الشرط الخطير مقابل توفير المال وفاء لصديقه الحميم “بسانيو“، ومشاركة له في فرحة زواجه من “بورشيا“.  

      تزوج “بسانيو” وانشغل سعيدا بحياته الجديدة مع “بورشيا“، لكن صديقه “أنطونيو” دخل في دوامة من الصعوبات المالية منذ أن بلغه خبر ضياع سفن تجارته في البحر. حل أجل سداد القرض، ولم يحضر “أنطونيو” في الموعد المتفق عليه مع “شايلوك“. انتهز “شايلوك” الفرصة، ودون أن يسعى لأي اتصال يطالب به غريمه باسترجاع الدَّين، سارع بخبث مقصود وعرَض الأمر على القضاء مطالبا برطل اللحم الحي من جسد “أنطونيو” ! سمع “بسانيو” من صديقه بالأمر فحدّث به زوجته ثم هبَّ مسرعا لنجدته، وعرض على “شايلوك” سداد القرض أضعافا مضاعفة مقابل التنازل عن دعواه أمام القضاء. رفض “شايلوك” كل العروض والوساطات والتوسلات للعدول عن تشبثه بإيذاء غريمه وقطع لحمه بدل أخذ المال. انعقدت هيئة المحكمة التي استدعي لها أحد أشهر قضاة المدينة نظرا لطابعها الاستثنائي، لكنه اعتذر وبعث نيابة عنه بمحام رشيق وأنيق. كان المحامي بارعا في ترافعه، فقد استطاع إيقاع “شايلوك” في فخ مكره وأَخْسَرَهُ دعواه أمام هيئة الحُكم. لم ينكر المحامي حق “شايلوك” في قطع رطل من لحم غريمه “أنطونيو“،  لكنه اشترط عليه ألا يُسقط قطرة دم واحدة من جسمه، لأن الدم غير مشمول بالتعاقد ! اكتشف “شايلوك” استحالة تنفيذ قطع اللحم دون انسكاب الدم، فرجع القهقرى وطالب بضعف المبلغ من المال، لكن الطلب لم يرفض فحسب، بل حكمت المحكمة بمصادرة أمواله وممتلكاته التي قادته إلى جشع يضمر به الشر للغير. شكر “بسانيو” و”أنطونيو” المحامي وطلبا منه تحديد أتعابه ليدفعاها له مسرورين بإنجازه الرائع. لم يطلب المحامي المال، ولكنه طلب مقابل أتعابه خاتم زواج “بسانيو” الذي أهدته له “بورشيا“..! تردد “بسانيو” في تسليمه الخاتم، لكنه دفعه له بحزن ظاهر. عاد الصديقان إلى قصر “بورشيا“، وصارح “بسانيو” زوجته بواقعة خاتم زواجهما معتذرا لها عن دفعه للمحامي، لأنه لم يكن ليبخل بشيء طلبه منه مقابل مرافعته التي أنقذت صديقه الوفي “أنطونيو” من شر اليهودي المرابي.  فاجأت “بورشيا” زوجها وصديقه بأنها هي من كانت متنكرة في شخص المحامي، وأنها فخورة باكتشاف خلق وفاء زوجها في موقفه من صديقه، كما بشرت “أنطونيو” بخبر عودة سفنه وأمواله وانفراج غمته.

       في مقاطع حوارية بديعة أدبيا، يلخص شكسبير خلجات النفس البشرية ومن خلالها نظرة العداء المتبادلة بين اليهودي والمسيحي في أوروبا زمانه. نكتشف وصف هذه الخلجات في قول “جراشيانو” ل”شايلوك” (ما روحك الشريرةُ غيرُ روحِ ذئبٍ شَنَقوه لِقتْلِه آدميّاً، ثم طارت من المشنقة لتنتقل إليك وأنت في بطن أمك العاهرة)؛ وفي حديث “شايلوك” ل”أنطونيو” (سيدي أنطونيو، مرارا وتكرارا عيرتني في الريالتو بسبب ثروتي وما أتقاضاه من الربا. ومع ذلك تحملت الإهانات بصبر. فالصبر شعار قبيلتنا بأسرها..نعتتني بالكفر، وبأنني كلب سفاح، وبصقت على زيي اليهودي، دونما سبب غير استثماري لأموال هي ملكي..حسنا إذن. والآن يبدو وكأنك في حاجة إلى مساعدتي..دعني منك ! تأتي وتقول :”شايلوك..نريد مالا”. تقول لي هذا وأنت الذي بَصقْتَ لُعابَك على لِحْيتي، ورَفَسْتَني رَفْسَك للكلب الضال عند عتبة دارك..تريد مالا..فما عساي أن أقول لك؟ أليس من واجبي أن أقول: “وهل للكلب مال؟ أيعقل أن يكون بوسع الكلب إقراض ثلاثة آلاف دوقية؟” أم أن عليَّ أن أنحني لك، وأهمس كالعبد الذليل وبأنفاس متقطعة:”سيدي الكريم، قد بصقت علي يوم الأربعاء، وركلتني في اليوم الفلاني، ونعتتني بالكلب تارة أخرى، ومن أجل كل هذا التعطف منك سأقرضك مالا كثيرا؟“.   

أما عندما يتحدث “شايلوك” عن “أنطونيو” في غيبته، فيقول عنه (قد هزأ بخسائري، وسخِر من أرباحي، واحتقر أمتي، وأفسد صفقاتي، وحوّل عني أصدقائي، وأثار عليّ أعدائي. فما دافعه إلى ذلك؟ أنني يهودي..أما لليهودي عينان؟ أما لليهودي يدان، وأعضاء وهيئة، ومدارك وعواطف وأحاسيس؟ أليس كالمسيحي يأكل من نفس الطعام، وتؤذيه نفس الأسلحة، وتصيبه نفيس الأمراض، ويعالجه نفس الدواء، ويشعر بالدفء في نفس الصيف، وبالبرد في نفس الشتاء؟ ألا يسيل الدم منا إذا طعنتمونا، ونضحك إذا داعبتمونا، ونموت إذا سمّمتمونا؟ فإن أنتم أسأتم إلينا، أفمن حقنا أن ننتقم؟ فإذا كنا مثلكم في كل ما ذكرت، فسنكون مثلكم في هذا الصدد أيضا. إذْ ما جزاء اليهودي إذا هو أساء للمسيحي؟ الثأر. وما هو جزاء المسيحي إن هو أساء إلى مسيحي؟ هو الثأر أيضا ! وستشهدون مني الغلظة التي تعلمتها منكم، بل وأشد منها إن لم يحل بيني وبينها حائل“.  

(يتبع في الحلقة التاسعة)

الهوامش:

  1. ويليام شيكسبير، تاجر البندقية، ترجمة أحمد حسين أمين، دار الشروق، بيروت، 1994.

أضف تعليقك

Leave A Reply

Exit mobile version