الدكتور الحبيب الشوباني
المقالة الثانية عشرة
المسألة اليهودية من خلال مواقف ثلة من مفكري التنوير الأوروبي:
ﭬولتير.. Voltaire
- “فرانسوا ماري أرويهFrançois-Marie Arouet” (1694-1778)، الشهير ﺑ « ﭬولتير »، من أعلام الأدب والفكر في فرنسا خلال القرن 18م. كان غزير الإنتاج الأدبي والفكري والفلسفي، وعرف قلمه بسخريته القاتلة ونقده اللاذع الذي لم ينجُ منه أحد صنَّفه خصما فكريا أو عقائديا أو سياسيا. ناهض الظلمَ السياسي والاجتماعي، فكان لكتاباته دور معتبر في التحريض الفكري على الثورتين الفرنسية والأمريكية. انتقد الكنيسةَ وَوَسَمها برمز التعصُّبَ الديني، ولم تخل علاقته بها من مواجهات، من أشهرها منعها إياه من عرض مسرحيته عن نبي الإسلام التي عنْوَنها ب«محمد» أو «التعصُّب»، وانتهاء برفض القساوسة الصلاة عليه بعد موته، ليدفن مغضوبا عليه بلا طقوس.
- مع ذلك، لم تنفع شهرة ﭬولتير من تحصينه ضد التهم التي كالَها له بعض خصومه الذين اعتبروه من أكثر مفكري عصر الأنوار تناقضا في التوفيق بين أقواله وأفعاله؛ يستدلون على ذلك بكونه ناهض التعصب الديني فكريا، لكن كتاباته لم تخل مما يثبت عداوته لليهود، لاعتقاده بطبيعتهم غير القابلة للاندماج والتعايش؛ كما أنه انتقد العبودية، لكنه كأرستقراطي عاش في لندن وصادَقَ فيها الملوك والنبلاء وعِلِّيَّةِ القوم، ملَك أسهما في “شركة الهند الشرقية” التي تأسست بمرسوم ملكي سنة 1600م، والتي لم تكن مجرد “مؤسســـة تجارية” تنشط في تجارة التوابل الهندية والمعادن وغيرها، بل “شبكة سيطرة عابرة للقارات” متخصصة في تجارة العبيد، و”منظمة شبه عسكرية” تستخدم القمع والإهانة لخدمة السياسات البريطانية الاستعمارية لشعوب الشرق، كما حصل سنة 1757عندما أحكمت الشركة ســـيطرتها الاستغلالية على جميع ثروات إقليم البنغال.
- في علاقة ﭬولتير ب”المسألة اليهودية” و”عدائه للسامية” (بلغة الاتهام المعاصر)، تتم الإحالة (1) إلى كتابه المعنون ب “القاموس الفلسفيDictionnaire philosophique”، والذي جمع فيه 118 مقالة، وصف اليهود في واحدة منها معنونة ب: “يهود juifs“، بقوله: Vous ne trouvez en eux qu’un peuple] ignorant et barbare, qui joint depuis longtemps la plus sordide avarice, à la plus détestable superstition, et à la plus invincible haine pour tous les peuples qui les tolèrent et les enrichissent. Il ne faut pourtant pas les brûler/لا تجد فيهم إلا شعباً جاهلاً همجياً، قد جمع منذ زمن طويل بين الجشع الأكثر قذارة، وبين الخرافات الأكثر تنفيرا، وبين الكراهية، الأشد استعصاء على الانمحاء، لجميع الشعوب التي تتسامح معهم وتثريهم. ورغم كل ذلك، لا يجب أن يُحرقوا].
- أما نقدُه للكتب الدينية لليهود والمسيحيين فقد كان لاذعا وعنيفا، لأن فكره التنويري لم يكن يستسيغ ما تحفل به هذه الكتب من مقاطع تُمجِّد ما لا يمكن للعقل الأنواري أن ينسبه إلا لإله عنيف يتلذذ بتعذيب مخلوقاته. في مقطع من مقالاته “خطبة الخمسين Sermon des cinquante” الصادرة ضمن مجموعة “الأعمال الكاملة لﭭولتير Œuvres complètes de Voltaire“، كتب ﭬولتير مهاجما العبرانيين ومُدينا لهم بسبب العنف والأعمال الهمجية والفساد الذي يعشش في ثقافتهم الدينية، ومعبرا عن شعوره بالاشمئزاز. مقالات “خطبة الخمسين“، مستوحاة من الخيال الأدبي للمؤلف، حيث يجتمع خمسون شخصًا مثقفًا وورعا وعقلانيا كل يوم أَحَد، لمدة عام في مدينة مأهولة بالسكان وذات نشاط تجاري: يُصلُّون، ثم يلقي أحدهم خطبة؛ ثم يتناولون العشاء، وبعد الوجبة يقومون بجمع الأموال للفقراء. يتناوب الخمسون رجلا على ترأس الجمع، والأمر متروك للرئيس أن يصلي ويلقي خطبته. رسالة المفكر من الخمسين خطبة الموجهة للمجتمع الفرنسي الذي انتقده فيها بشدة، أن كلماتها بمثابة بذور للإصلاح، وأنها إذا وقعت في عقول مفكرة، فستكون كالأرض الخصبة التي لا شك أنها ستثمر.
- في مناجاة أحد رؤساء مجموعة الخمسين لخالقه، يقول ﭬولتير على لسانه مستبشعا ما عليه اليهود من الشر والإفساد في الأرض: [يا إلهي ! لو نزلت أنت بنفسك إلى الأرض، لو أمرتني بالإيمان بهذا النسيج من القتل والسرقة والاغتيالات وزنا المحارم، التي ترتكب بأمرك وباسمك، فسأقول لك: لا، قداستك لا تقبل أن أذعن لهذه الأشياء الفظيعة التي تُغضبك؛ إنك تريد ابتلائي بلا ريب / Ô mon Dieu ! si tu descendais Toi-même sur la Terre, si tu me commandais de croire ce tissu de meurtres, de vols, d’assassinats, d’incestes, commis par ton Ordre et en ton Nom, je te dirais : Non, Ta Sainteté ne veut pas que j’acquiesce à ces choses horribles qui t’outragent ; Tu veux m’éprouver sans doute !].
- وضع ﭬولتير أصبعه بدون تردد على ما اعتبره سببا للوضع الشاذ لليهود في العالم، وهو ما جعلهم على الدوام عرضة للاضطهاد واستحالة الاندماج الأبدي مع الشعوب التي هم جزء منها، كما هو شأن معتنقي سائر العقائد الدينية المختلفة؛ إن ﭬولتير يرى أن الخطيئة الأصلية لليهود كامنةٌ في كونهم ضحايا عقيدتهم الفاسدة، والتي تقوم على مفهوم جوهري سخيف، يتمثل في إيمانهم بأنهم “شعب الله المختار“، اختارهم الله لهداية البشر، لكن أحبارهم المشعوذين خدعوهم وحولوه إلى استثمارٍ مُخَوْصَصٍ، جَوَّزوا لهم به احتقار باقي الشعوب، وأحلوا لهم به استغلالهم، والتصرف به في أموالهم وأعراضهم بلا رادع. على أن ﭬولتير لا يفصل في هذا الانحراف بين اليهود والنصارى، بسبب علاقة الانتساب الديني الذي يجعل اليهودية أصلا والمسيحية فرعا؛ ولذلك فإن نقذه اللاذع يشملهما أحيانا بنفس القسوة والتدمير.
- يقول في باقة منضودة من هذه المواقف المتفرقة في كتبه المشار إليها أعلاه، توضح موقفه من “المسألة اليهودية” :
(Il y eut toujours chez les Juifs les gens de la lie du peuple qui firent les prophètes pour se distinguer de la populace(…) ils sont le dernier de tous les peuples parmi les musulmans et les chrétiens, et ils se croient les premiers (…) Nous avons les Juifs en horreur, et nous voulons que tout ce qui a été écrit par eux et recueilli par nous porte l’empreinte de la Divinité ! Il n’y a jamais eu de contradiction si palpable monde ! (…) Ce qu’il y a de singulier, c’est que les chrétiens ont prétendu accomplir les prophéties en tyrannisant les Juifs qui les leur avaient transmise (…)Ou renoncez à vos livres auxquels je crois fermement selon la décision de l’Eglise ; ou avouez que vos pères ont offert à Dieu des fleuves de sang humain, plus que n’a jamais fait aucun autre peuple du.. !)
[عُرف عند اليهود دائمًا وجودُ حثالة من الناس يصنعون الأنبياء ليميزوا أنفسهم عن العامة: وهذا هو ما أحدث كل هذا الضجيج حولهم(..) هم آخر الشعوب مقارنة بالمسلمين والمسيحيين، ويعتقدون مع ذلك أنهم في الصدارة (..) لدينا كراهية مرعبة لليهود، لكننا نريد أن يكون كل ما كتبوه وأخذناه عنهم منسوبا إلى الله ! إن تناقضا بمثل هذا التجسيد في الواقع لا توجد له سابقة ! (..) ما يمكن اعتباره شيئا فريدا، هو أن النصارى زعموا تحقيق النبوءات باضطهاد اليهود، وهؤلاء هم الذين نقلوها إليهم ! (..) إما أن تنبذوا كتبكم التي أؤمن بها إيماناً راسخاً حسب قرار الكنيسة، أو تعترفوا بأن آباءكم قدموا لله أنهاراً من دماء البشر، أكثر مما قدمه أي شعب آخر في العالم].
(يتبع في الحلقة الثالثة عشرة / عن نشأة الحركة الصهيونية في القرن 19)
الهوامش:
- Pascale Pellerin. L’image et la place des juifs chez les philosophes des Lumières. Lumières, 2017, 26 (4), pp.41-62. ffhal-02050071f.