3 ملاحظات حول قول الوزير التوفيق: نحن علمانيون؟

أثار تصريح وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية في البرلمان حول العلمانية في المغرب ردود فعل كثيرة ومتباينة، منها ما احتفى بها واعتبرها دعما للخيار العلماني، ومنها ما استنكرها على اعتبار أننا دينيون ولسنا علمانيين.

والذين انتقدوا الوزير بنوا على خلاصة تفيد أن الوزير قال بأن “المغرب دولة علمانية”، وأنه قال ذلك لوزير الداخلية الفرنسي. مما إثار موجة استنكار وسط الإسلاميين وغيرهم ممن يرون أن الدولة المغربية ليست علمانية، وأن مثل ذلك الكلام لا يقال لوزير داخلية دولة فرنسا.

وبالرجوع إلى تصريح الوزير في البرلمان، والذي هو موثق عبر مقاطع فيديو على اليوتوب، نجد أن معظم الانتقادات الموجهة للوزير لم تكن دقيقة ولا هادفة.

فالوزير نقل جزءا من الحوار الذي دار بينه وبين وزير الداخلية الفرنسي خلال لقاء جمع بينهما بمناسبة زيارته للمغرب خلال زيارة الرئيس ماكرون الأخيرة. وفي مستهل حديثه أشار إلى الظروف الصعبة التي تعيشها أوروبا فيما يتعلق بتدبير التعدد الديني في مجتمعاتها. وفي ذلك السياق قال (إنهم مقتنعون، لكنهم في سياق داخلي معقد. هم مقتنعون أن الإسلام معتدل في المغرب، كذا وكذا .. في صالح الجميع … ومن جملة ما قاله لي الوزير: أنتم في المغرب تصدمكم العلمانية. فقلت له: لا. فقال: كيف ذلك؟ فقلت له: لأننا نحن علمانيون. قال: كيف ذلك؟ قلت له: لأننا ليس لدينا نصوص 1905، ولكن من أراد شيئا عندنا يفعله، لأنه لا إكراه في الدين. و”بْقَى حَالْ فمُّو” .. الظروف عندهم “ماشي سهلة” وأقول لهم، نحن معكم لأننا مع الاعتدال، ونحن مع الحرية، ونحن مع … ولكن ظروفهم ليست سهلة).

في كلام الوزير ثلاثة أمور مهمة تستحق المناقشة، الأول قوله نحن في المغرب علمانيون لأن كل من أراد شيئا يفعله. والثاني تفسيره ذلك بالقول “لا إكراه في الدين”، والثالث قوله ” نحن معكم لأننا مع الاعتدال، ونحن مع الحرية، ونحن مع …”.

الأمر الأول: هل نحن فعلا علمانيون؟

خلاف معظم ما ذهب إليه منتقدوه، وكما هو ملاحظ في تصريحه في البرلمان، فالوزير، كما أوضح ذلك أيضا في رسالته المفتوحة الموجهة للأستاذ عبد الاله ابن كيران، لم يتحدث عن الدولة، ولم يصفها بالعلمانية، وإنما تحدث عن “نحن في المغرب” وتحدث عن أن الجميع حر في فعل ما يريده، وهو ما يحيل على الحديث عن درجة من الحريات الفردية المنتشرة فعليا في المجتمع المغربي. فالوزير يصف هذا الانتشار للحريات الفردية بالعلمانية، فهو بذلك يتحدث عن درجة من العَلمنة في المجتمع، وليس عن العَلمنة في مؤسسات الدولة وهويتها.

وقد كان أكثر وضوحا في الفصل بين المجتمع والدولة حين قال إننا ليس لدينا نصوص 1905، في إشارة إلى القانون الفرنسي الصادر في 9 دجنبر 1905 والذي أقرّ مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة في فرنسا، والذي يؤكد الفصل الثاني منه على أن “الجمهورية لا تعترف ولا تموّل ولا تدعم أي دين”.

وتلك الإشارة تفيد أنه رغم أننا لسنا دولة علمانية فالمجتمع يتصرف بعلمانية بما أن الجميع حر في فعل ما يريده دون أي إكراه ديني من أحد.

والذي ينبغي مناقشة الوزير فيه هو وصف تصرف المجتمع المغربي بحرية ودون إكراه ديني بالعلمانية.

فرغم أن العلمانية علمانيات فهي جميعا، في فلسفتها، تجعل حدودا واعية بين الدين والحياة العامة، ولا تختلف إلا من حيث درجة ذلك الفصل ونوعه. في حين أن تصرفات عموم المغاربة لا ترتكز على فصل واع بين الدين واختياراتهم حين تكون مخالفة للمقتضيات الدينية. وهي ظاهرة منتشرة يكون فيها نوع من الانفصام غير الواعي بين السلوك والمعتقد.

وكلام الوزير في هذا المستوى يصطدم بكثير من الدراسات العلمية التي تؤكد ليس فقط تجدر التدين في المجتمع المغربي، بل تصنيف المغاربة ضمن أكثر الشعوب تدينا.

لذلك فالقول إننا علمانيون لأننا نفعل ما نريد دون إكراه ديني كلام لا يستقيم، وعلى قائله مواجهة الدراسات العلمية بدراسات تؤكد أن ظاهرة تصرف المغاربة خلاف المقتضيات الدينية تصرفات واعية وتمثل قناعات فكرية ترشح سلوكهم ليكون بذلك سلوكا علمانيا.

وهذا التمييز الدقيق، لا ينفي وجود علمانيين مغاربة بالفعل، يعيشون وعيهم العلماني بحرية يوفرها الإطار العام للحريات في البلد.

لكن أن يجعل الوزير “فعل ما تريد” مرادفا للعلمانية وعنوانا لها ليس على إطلاقه نهائيا حتى في الدول والمجتمعات العلمانية العريقة. ففي فرنسا مثلا تراجعت الحريات الدينية للمسلمين بالخصوص، وتفاقمت أزمة حرياتهم في ظل حكومتي ماكرون والوزير الذي فغر فمه تعجبا من قوله.

والسؤال الجوهري الذي ينبغي أن يوجه للوزير هو، علمانية المجتمع المغربي المزعومة، والمبنية على “حرية أن تفعل ما تريد” هل هي جوهر البرامج الدينية التي تشرف عليها وزارته؟

إن “حرية أن تفعل ما تريد” هو من الناحية النظرية المجردة له بريق راق يغري بالدعوة إلى التمكين له في المجتمع وفي سياسة الدولة، لكن بأية قيم وبأية فلسفة؟ فالمشكلة ليس في الشعارات، بل على مستوى القيم والفلسفة التي تؤطره.  

وهنا تنكشف خطورة تصريح الوزير التوفيق تحت قبة البرلمان، والذي أبدى انبهاره بالعلمانية وبمبدأ “حرية أن تفعل ما تشاء”، وهو يعلم أن محركهما في الغرب يرتكز على قيم وفلسفة يفترض أنها تناقض ما في برامج وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التي يقودها لأزيد من عقدين من الزمن.

الأمر الثاني: لا إكراه في الدين

في التقدير، الذي كان على الإسلاميين مناقشة الوزير فيه بالأولوية ليس حديثه عن علمانية الدولة، بل قوله ” ولكن من أراد شيئا عندنا يفعله، لأنه لا إكراه في الدين”. فالوزير مرر هنا فهما خطيرا للآية الكريمة يجعلها تبيح للمرء أن يفعل ما يشاء. وهو تفسير مناقض لمقاصد الدين نفسه، حين تشهر لتبرير السلوكات المخالفة للمقتضيات الدينية.

وإذا كانت عبارة “لا إكراه في الدين” من الناحية اللغوية جملة مفيدة، فعبارة “ويل للمصلين” أيضا عبارة مكتملة المعنى من الناحية اللغوية، فكلاهما جزء من آية وسياق، والفرق بينهما هو أن “ويل للمصلين” تناقض المقتضيات الدينية لفظا ومعنى، في حين أن “لا إكراه في الدين” حين تجتث من سياقها القرآني تقع في نفس المحظور حين تتحول إلى مطية إيدلوجية لتبرير السلوكات المخالفة للدين.

فالآية الكريمة تقول ﴿لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم﴾.

والمصادر الدينية تتحدث عن كون الآية تتعلق بحرية الدخول في الدين من عدمه وليس في تبرير السلوك المخالف للدين لدى المسلمين. كما تتحدث تلك المصادر عن كون تلك الآية نسخت بآيات أخرى، مثل التي تحض على تغيير المنكر والجهاد.

ومن الناحية الفلسفية أو التصورية فمحاولة التأصيل للحريات الفردية على شاكلة الحريات الفردية في الغرب في قوله تعالى “لا إكراه في الدين” لا يستقيم، لأن من تلك الحريات ما يصطدم بنصوص دينية قطعية الثبوت والدلالة، ما يجعل عمليات التأصيل تلك تقفز على التناقض الذي تحدثه بين النصوص فيما بينها وليس بين النصوص والممارسات.

إن “حرية أن تفعل ما تشاء” لا وجود لها إلا في الخطابات الاديلوجية التي تهدف إلى تزييف الوعي، وليس هناك دولة أو مجتمعا يمكن للفرد فيهما أن يفعل كل ما يشاء. فهو يصطدم بإرادة الدولة في المقام الأول، وهي تدبر ترسانة من القوانين فيها موانع وحدود، ولها مصالح، وتدبر توازنات. ويصطدم في المقام الثاني بالمجتمع، حيث تتفاعل حريات باقي الأفراد وإراداتهم لتشكل شبكة من الحدود التي تحمي حريات الآخرين ورغباتهم، كما يصطدم بدائرته القريبة المشكلة من أسرته ومعارفه، حيث تحد من حرياته اعتبارات أخرى خاصة. ويصطدم في المقام الثالث بقناعاته وعقائده وضميره، وخاصة حين تكون دينية. 

إنه لتفعل كل ما تريده عليك أن تقفز على كل تلك الحواجز، لتجد نفسك في حلم عميق.

الأمر الثالث: “نحن معكم”

قال التوفيق حول حديثه مع وزير الداخلية الفرنسي ( … الظروف عندهم “ماشي سهلة” وأقول لهم، نحن معكم لأننا مع الاعتدال، ونحن مع الحرية، ونحن مع … ولكن ظروفهم ليست سهلة).

وعبارة “نحن معكم” عبارة ملتبسة، فهل تعني أن التوفيق متفق مع السياسية الراديكالية غير المسبوقة التي تنهجها حكومة ماكرون ضد الإسلام والمسلمين في فرنسا، والتي يتوقع أن تتفاقم مستقبلا في ظل الصعود القوي لليمين المتطرف؟

فالعالم تتبع كيف صادرت فرنسا حريات المسلمين باسم العلمانية وشنت حرب استئصال غير مسبوقة لكل مظاهر التدين الإسلامي في محاربتها للرموز الدينية دون احترام للمقتضيات الدينية التي لا تعتبر رموزا بل شعائر وواجبات.

وينص قانون “مبادئ تعزيز احترام قيم الجمهورية”، الذي تقدمت به حكومة ماكرون وأقرته الجمعية الوطنية نهاية يوليوز 2021، على فرض رقابة على المساجد والجمعيات المسؤولة عن إدارتها، ومراقبة تمويل المنظمات المدنية التابعة للمسلمين.

كما يفرض قيودا على حرية تقديم الأسر التعليمَ لأطفالها في المنازل، ويحظر ارتداء الحجاب في مؤسسات التعليم ما قبل الجامعي.

وفرنسا التي فشلت في استيعاب الإسلام والمسلمين بسبب سياساتها العلمانية المتطرفة، تحاول معالجة مشاكلها واختلالاتها على حساب حرية التدين لدى المسلمين باعتباره “الحيط القصير” بتعبير المغاربة. علما أن مرض فرسنا ليس في وجود الجاليات الإسلامية على أراضيها، والتي توجد في كل بلدان العالم، بل في تطرف سياساتها وأحزابها ضد المهاجرين بشكل عام والمسلمين منهم بشكل خاص.

فهل التوفيق معهم في هذا الذي قدمنا حوله بعض الإشارات؟ وهل ما تقوم به فرنسا ضد الإسلام والمسلمين اعتدال؟ وهل فيه احترام للحرية الدينية؟ أم ماذا يريد أن يقوله السيد الوزير بقوله “نحن معكم”؟

أضف تعليقك

Leave A Reply

Exit mobile version