الهزل الأسود” يغرق تعديلات مدونة الأسرة في الظلام (3/1)

المرحلة التي دخلها ورش تعديل مدونة الأسرة لها أهمية كبرى تستمدها من كونها تتميز بالإعلان عن حصيلة عمل المجلس العلمي الأعلى وتقديم المضامين الرئيسية لمقترحات مراجعة المدونة، والتي قال عنها عالم المقاصد الدكتور أحمد الريسوني، في تعليق مقتضب تم تعميمه إعلاميا، إنه “على العموم هذه الاختيارات الفقهية/ القانونية تقع ضمن ما يسوغ فيه النظر والاجتهاد والتعديل”.

ورغم أن هذا البعد الشرعي يمثل قطب الرحى في تعديلات المدونة إلا أن الذي يناقشه الناس، في مواقع التواصل الاجتماعي وفي منتدياتهم، ليس ما قيل رسميا في هذه المرحلة الدقيقة من الورش، بل ما يروج على شكل نكت وكلاشات، وآراء تحاول التأصيل لأشياء “غير مطروحة” على طاولة النقاش.

والنتيجة هي أنه بدل أن يقود العلماء والخبراء والمختصون والباحثون النقاشات في هذه المرحلة الدقيقة، نجد أن من يقود قاطرة التفاعلات، خاصة في مواقع التواصل الاجتماعي، هو “الهزل الأسود”، الذي صنع محتويات مضللة حول بيت الزوجية والتعدد والوصاية وغيرها من القضايا، بمقاربات تتعمد التغليط والتضليل معا.

وحتى بعض النخب التي يفترض فيها التعاطي مع الموضوع بمقاربات رصينة تناسب المستوى الذي بلغه الورش، نجدها تنخرط، مع الأسف، في إطلاق “الكلاشات” على ما تم، وإعطاء خلاصات غارقة في أحكام قيمة لا تصمد كثيرا أمام التمحيص.

وسنحاول في هذا المقال (في ثلاث حلقات) التوقف عند أبرز القضايا، ليس من وجهة نظر فقهية أو قانونية، لا ندعيها ولها أصحابها، بل من وجهة نظر الملاحظ المقارن لما قيل رسميا وما يروج عمليا حتى لدى بعض المختصين، مع الأسف الشديد.

أولا، تبخيس عمل المجلس العلمي الأعلى

أول ما يثير الانتباه هو أن عمل المجلس العلمي، رغم أنه استغرق أطول مدة في عمر ورش تعديل مدونة الأسرة، لم ينل ما يستحقه من الاهتمام، وأبرز شيء يمكن تسجيله هو أن المجلس لم ينشر تقريرا عن عمله الاجتهادي ليطلع الرأي العام والخبراء والباحثون عن منهجه في التأصيل للنتائج المعلنة. وتم الاكتفاء بنشر “حصيلة الأجوبة عن المسائل الشرعية”على شكل تقرير إداري تلاه وزير الأوقاف، يتضمن جداول فقيرة من حيث البيان والاستدلال، يصعب حتى على المتخصص فهمها، وقد أعلنت للعموم!

فجدول حصيلة أجوبة المجلس يتكون من عمود بعنوان “موضوع المسألة” يعرف باقتضاب شديد المسألة المعروضة، والعمود الثاني بعنوان “تلخيص الإجابة” حيث يتم عرض الجواب بشكل مقتضب يصل حدا يجعل نشر التقرير للعموم غير ذي فائدة، مثل أن يكون جواب المجلس في كثير من المسائل هو: “جواب العلماء يستجيب للمطلوب”!

وهذا “الفراغ العلمي”، إن صح التعبير، بخس جهود المجلس العلمي عمليا، وفسح المجال لتحليلات تفسر خلاصات أجوبة المجلس كيف تشاء، وتتجاوزها في القضايا المطروحة لصالح استنتاجات معاكسة للتوجه الذي تم الإعلان عنه في موضوع التعديلات، وكل ذلك باسم الدين والشريعة.

ولو أن المجلس كشف عن عمله في مختلف القضايا التي تدارسها لفرض توجها في النقاش يعزز دور العلماء والخبراء والباحثين في النقاش العمومي، ويعزز التوجه العلمي الرصين فيه، بذل إعطاء الفرصة للتنمر والهزل الأسود.

إن المغاربة يستحقون أن تصاغ اجتهادات المجلس العلمي في تقرير علمي رصين يتم وضعه رهن إشارة العموم ورهن إشارة الباحثين والعلماء والمهتمين وغيرهم. ومن دون شك سوف يكون لعمله ذلك تأثير تأطيري إيجابي ليس فقط داخل المغرب بل خارجه أيضا.

ثانيا، مزاعم انحياز التوجه العام للتعديلات للمرأة ضد الرجل

التوجه العام الذي حكم الانتقادات الموجهة للمضامين الرئيسية لتعديل مدونة الأسرة التي تم الكشف عنها هو الزعم بكونها منحازة لصالح المرأة وضد الرجل. ويمكن التوقف، كمثال، عند أول تعليق صدر عن العلامة أحمد الريسوني، المشار إليها سابقا، حيث قال: “…لكن المشكلة تكمن في هذا الاتجاه العام للاجتهاد الرسمي المعتمد، وهو التضييق والضغط على الرجل: قبل زواجه، وأثناء زواجه، وفيما بعد الطلاق وبعد الممات!

 إن القبح الذي لا يمكننا أن نغطيه بأي غربال هو أن المرأة عبر التاريخ هي التي ظلمتها التشريعات البشرية والتقاليد المجتمعية وليس الرجل، وأن ذلك الظلم كان دائما لصالح هذا الأخير، وأن كل محاولة لرفعه تمس بمصالحه.

والذي تؤكده المصادر الإسلامية نفسها هو أن تنظيم الإرث في الإسلام جاء لإنصاف المرأة ضد ظلم المجتمع الذكوري، وهذا ما يروجه الخطاب الإسلامي على الدوام، سواء على المستوى الفقهي أو الدعوي والسياسي. وأن من بين أسباب نزول آيات الميراث شكوى امرأة أو لصالحها وليس شكوى الرجل.

وحتى عبر التاريخ الإسلامي، فخلال أزيد من 14 قرنا نشأت أعراف وتقاليد اجتماعية لبست لبوس الدين حرمت المرأة حتى من حقوقها المقررة شرعا. وكانت قضايا الأحول الشخصية في مختلف البلدان الإسلامية تمثل حقل الصراع بين جهود إنصاف المرأة ومحاولات الحفاظ على ظلمها. وهنا أتحدث فيما له علاقة بالحقوق التي أقرتها الشريعة الاسلامية للمرأة، وليس عن الحقوق من منظور كوني.

إنه من الطبيعي اليوم أيضا أن يجد كل واحد، الرجل والمرأة، نفسه معنيا بشكل مباشر بتعديل مدونة الأسرة، وأن يسأل ماذا سأربح؟ وماذا سأخسر؟ لكن غير الطبيعي أن ننطلق من مسلمات لاشعورية خاطئة، تجعل الرجل دائما هو من يموت وأن المرأة هي من ترث، وتجعل الرجل دائما هو من يملك ما يورث وأن المرأة هي من ترث ما يملكه.

إن ورش تعديل مدونة الأسرة فيه أمور تعمل على رفع ما قد يكون فيه استمرارٌ لـ”ظلم” المرأة، وفيها أمور أخرى لا تهم المرأة وحدها، بل تهم الأسرة بكل مكوناتها. وسيكون من الطبيعي أن يكون التوجه العام للتعديلات منحاز لصالح المرأة، لكن غير الطبيعي أن نعتبر ذلك خطأ، أو أنه ضد الرجل.

إن عدم الانتباه إلى هذه الحقيقة الكبيرة قد تدفع كثيرين للقيام بردود فعل محكومة في حقيقتها بخلفية “المصلحة الذكورية” المنتمية إلى مجتمعات “جاهلية ما قبل الإسلام”، وليس بخلفية المصلحة الشرعية.

يتبع في الحلقة 2/3

أضف تعليقك

Leave A Reply

11
استطلاع الرأي

من ترشح للفوز بكأس افريقيا

التواصل الاجتماعي
Exit mobile version