اكتشاف دفن يعود إلى أزيد من 4000 عام في طنجة يكشف تقاليد جنائزية معقدة

ثقة تيفي

تمكّن فريق من علماء الآثار، بقيادة الباحث المغربي حمزة بن عطية من جامعة برشلونة، من اكتشاف ثلاث مقابر أثرية تعود إلى نحو 4 آلاف عام، في طنجة جنوب مضيق جبل طارق مباشرة. هذا الاكتشاف يسلط الضوء على تعقيد وغنى التقاليد الجنائزية والطقسية التي عرفتها المنطقة في أواخر عصور ما قبل التاريخ.

لكن الدراسة المنشورة في مجلة “المراجعة الأثرية الإفريقية” يوم الثلاثاء 12 ماي 2025، تحذر من التهديدات المتزايدة التي تتعرض لها المواقع الأثرية في طنجة، بما في ذلك النهب والتوسع العمراني والممارسات الزراعية، داعية إلى تعزيز جهود الحماية والصون لهذا التراث الثقافي الغني.

وأشارت الدراسة إلى أن الموقع الجغرافي الاستراتيجي للمنطقة جعل منها نقطة وصل بين قارات وحضارات، ما انعكس في سجل أثري غني يتضمن مدافن متعددة الأشكال، وفنًا صخريًا، ومواقع طقسية تعبر عن هوية ثقافية متجذرة ومترابطة عابرة للحدود القارية.

تشمل هذه المدافن، “المدافن الصندوقية” المبطنّة بالحجارة، وهي عبارة عن حفر صخرية مغلقة بألواح حجرية. تم تحديد عمر إحداها عبر تحليل الكربون المشع ليعود إلى نحو 2000 سنة قبل الميلاد، مما يعد أول دليل زمني دقيق لمدفن من هذا النوع في شمال غرب إفريقيا.

وقد جاءت هذه المدافن في سياق طقسي متطور، يتضمن ممارسات دفن متنوعة مثل مدافن الحفرة، ومدافن الكهوف، والمقابر المحفورة تحت الأرض (hypogaea) . وتُظهر هذه الممارسات تشابهًا واضحًا مع أنماط الدفن في جنوب أيبيريا، ما يفتح المجال أمام تساؤلات بحثية حول احتمالية وجود ديناميات ثقافية مشتركة خلال تلك الحقبة عبر مضيق جبل طارق.

كما عثر الفريق على نحو 12 ملجأً صخريًا مزخرفًا برسومات فنية تشمل تصاميم هندسية معقدة كمربعات ونقاط وخطوط متموجة، إلى جانب أشكال بشرية محتملة تُعرف محليًا باسم “ثنائي المثلث”، وهي رسوم نُظمت على شكل مثلثات متقابلة، يُعتقد أنها ترمز إلى شخصيات أنثوية. وتم توثيق رسومات مشابهة في شبه الجزيرة الإيبيرية والصحراء الكبرى، ما يفتح المجال أمام التساؤلات حول الروابط الثقافية والتبادلات بين هذه المناطق.

كما أظهرت الحفريات وجود عدد من “الأحجار الدائمة” المنتصبة التي قد تكون استخدمت كعلامات إقليمية أو لأغراض طقسية، حيث تراوحت أطوال بعضها بين أمتار، وبلغ ارتفاع أحدها 2.5 مترًا. وتدل هذه الاكتشافات على طقوس طقسية متقدمة في منطقة طنجة، كانت قد خفيت عنها الأضواء لفترة طويلة.

وأشارت الدراسة المنشورة في مجلة “المراجعة الأثرية الإفريقية” إلى أن هذه النتائج تكشف عن “منظومة طقسية أكثر انتشارًا وتعقيدًا مما كان يُعتقد سابقًا” في منطقة طنجة، وتضعها في صلة مباشرة مع تقاليد جنائزية مماثلة عُرفت في الجنوب والصحراء الكبرى خلال نفس الحقبة الزمنية.

كما تبرز الدراسة استمرارية هذه الممارسات الجنائزية في طنجة حتى نحو 400 قبل الميلاد، مما يعكس استقرارًا ثقافيًا واجتماعيًا في المنطقة مقارنة بجيرانها شمال البحر، حيث تراجعت هذه الطقوس في جنوب أيبيريا لصالح حرق الجثث في الألفية الثانية قبل الميلاد.

تُظهر الاكتشافات الحديثة أن المدافن غالبًا ما تقع عند مفترقات طرق رئيسية، ما يشير إلى دورها المحتمل كعلامات إقليمية في سياق التنافس المجتمعي على الأرض وتزايد الإقليمية. ورغم وجود مستوطنات من عصور ما قبل التاريخ في المنطقة، لا يزال الربط بين مواقع السكن والمقابر في الهواء الطلق غير مكتمل، وهو فارق ملحوظ عن جنوب أيبيريا حيث يسجل هذا الترابط بشكل واضح.

كما سلطت الدراسة الضوء على أهمية الفن الصخري في المنطقة، مشيرة إلى أوجه تشابه واضحة بين الرسومات المكتشفة حديثًا في جبال الريف ومثيلاتها في جنوب المغرب وأوروبا الأطلسية، ما يؤكد استمرار الاتصالات الثقافية عبر ضفتي البحر منذ آلاف السنين.

وبالإضافة إلى المدافن والفن الصخري، كشفت التحليلات المكانية باستخدام نظم المعلومات الجغرافية عن توزيع منتظم لهذه المواقع على طول طرق الاتصال القديمة، مما يشير إلى وجود طقوس اجتماعية ودينية مترابطة كانت تمارس على نطاق إقليمي واسع.

ويفتح هذا الاكتشاف آفاقًا جديدة لفهم تاريخ شمال غرب إفريقيا، الذي لا يزال في كثير من أوجهه غامضًا رغم أكثر من قرنين من البحث الأثري. كما يكشف عن تفاعل ثقافي قديم مع المجتمعات الفينيقية التي استقرت في المنطقة في الألفية الأولى قبل الميلاد.

وتكشف هذه الاكتشافات الأثرية عن أهمية طنجة كمركز حيوي للتفاعل بين إفريقيا وأوروبا والمحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط، وتعكس تطورًا ثقافيًا واجتماعيًا مستمرًا في المنطقة. كما تفتح المجال لدراسة أعمق للعلاقات بين مختلف الحضارات القديمة في منطقة غرب البحر الأبيض المتوسط.

ويأمل الباحثون أن تساهم هذه الاكتشافات في تحفيز المزيد من الأبحاث حول هذه الحقبة الغامضة، وأن تعيد تقييم موقع شمال غرب إفريقيا ضمن الديناميات الأوسع لغرب البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي في عصور ما قبل التاريخ.

أضف تعليقك

Leave A Reply

Exit mobile version