نظام أساسي لقطاع التربية الوطنية أم دعوة للفوضى؟

من كان يعتقد أن الإفراج عن النظام الأساسي لموظفي قطاع التربية الوطنية الصادر يوم 06 أكتوبر 2023 ، الذي كان العمل جاريا على إعداده، على قدم وساق، بين بين وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة والنقابات التعليمية الأكثر تمثيلية منذ التوقيع على اتفاق 14 يناير 2023، تحت إشراف رئيس الحكومة، والذي حدد المبادئ الكبرى المؤطرة للنظام الأساسي الجديد الخاص بموظفي التربية الوطنية، أن يؤدي ذلك الإفراج عن النظام الأساسي إلى شلل بالمؤسسات التعليمية، وتوقف الدراسة بها إثر دخول هيأة التدريس، وباقي الفئات الأخرى المنتمية للقطاع، كأطر الدعم الإداري والتربوي والاجتماعي … في إضرابات لمدة ما يقرب من ثلاثة أشهر؟ ذلك النظام الأساسي الذي روجت له الحكومة والنقابات الموقعة معها عليه في البداية، أشعل فتيل نار احتجاجات الأسرة التعليمية، قادته مختلف التنسيقيات التعليمية وتبعتها فيما بعد باقي النقابات بما فيها الموقعة عليه، جعل كل من أعده، أو أشاد به يتراجع عنه، بل ويطالب بتجميده ثم بسحبه فيما بعد.

 فيكف إذن تحول النظام الأساسي لموظفي قطاع التربية والوطنية الذي قال عنه الوزير الوصي على القطاع، شكيب بنموسى، في بلاغ لوزارته بتاريخ 27 شتنبر 2023، أنه نظام يندرج في إطار تنفيذ أحكام القانون-الإطار51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، ويأتي في سياق تفعيل التوجهات الواردة في النموذج التنموي الجديد لأجل تحقيق نهضة تربوية حقيقية عبر الاستثمار في تكوين وتحفيز المدرسين قصد جعلهم الضامنين لنجاح تعلمات التلميذات والتلاميذ، كما أنه يأتي انسجاما مع البرنامج الحكومي 2021-2026 والذي يولي أهمية كبرى للتعليم باعتباره من بين ركائز الدولة الاجتماعية، حيث تسعى الحكومة إلى رد الاعتبار لمهنة التدريس، كما أنه يتوخى تنفيذ الالتزامات الواردة في خارطة الطريق 2022-2026، ولا سيما ما يتعلق بإرساء نظام لتدبير المسار المهني يحث على الارتقاء بالمردودية لما فيه مصلحة المتعلمات والمتعلمين. كيف تحول هذا النظام الأساسي إلى أداة لشل المدرسة العمومية وإخراج الشغيلة التعليمية للشارع وخلق فوضى بقطاع التربية والتكوين، وحرمان أبناء المدرسة العمومية من الدراسة والتحصيل العلمي لما يقارب الثلاثة أشهر؟ من المسؤول عن هذا الفشل في إخراج نظام أساسي لا يلامس، بالفعل، مصالح وحقوق الشغيلة التعليمية بمختلف مكوناتها، ومصالح المتعلمين والمتعلمات ويعمل على صيانتها وتعزيزها؟ هل كنا في حاجة إلى هذا الهدر المهول للزمن المدرسي، وهذا الشحن غير المسبوق للشغيلة التعليمية لو كان المسؤولون عن إعداد النظام الأساسي  ينظرون بمنظار مرجعيات الإصلاح المتعددة وعلى رأسها الرؤية الاستراتيجية للتربية والتكوين 2015-2030، والقانون الإطار 51.17 التي نصت على وجوب “” إعادة تحديد المهام والأدوار والمواصفات المرتبطة بمهن التربية والتكوين والبحث والتدبير، وجعل التكوين الأساس إلزاميا ومُمَهْننا بحسب خصوصيات كل مهنة ونهج تكوين مستمر ومؤهل مدى الحياة المهنية، واعتماد تدبير ناجع للمسار المهني، قائم على المواكبة والتقييم والترقية المهنية على أساس الاستحقاق” وإلى ضرورة : “التقيد بمبادئ المساواة والإنصاف وتكافؤ الفرص في ولوج مختلف مكونات المنظومة وفي تقديم خدماتها لفائدة المتعلمين بمختلف أصنافهم”؟

إن ما وقع من توقف للدراسة في المدرسة العمومية وإبعاد ملايين المتعلمين والمتعلمات عن فصولهم الدراسية، ودخول الشغيلة التعليمية في إضرابات متتالية ومسيرات ووقفات احتجاجية، يبرهن بالملموس أن النظام الأساسي المجمد والمسحوب فيما بعد، الذي كانت الوزارة الوصية على القطاع، ومن ورائها الحكومة، قد زفته إلى عموم المغاربة على أنه فتح مبين، وإنجاز عظيم لا قبل لمن قبلهم ولا لمن بعدهم به، لم يراع كل تلك الأطر المرجعية التي أشار إليها بلاغ وزارة التربية الوطنية الصارد في 27 شتنبر2023، ومعه لم تراع حقوق الأسر المغربية في ضمان الاستمرارية التعليمية لأبنائهم بمختلف المؤسسات التعليمية.

  1. لماذا احتجت الشغيلة التعليمية على النظام الأساسي، “نظام المآسي” كما تمت تسميته؟.. محاولة فهم ما جرى.

في الواقع، إن النظام الأساسي لقطاع التربية الوطنية الصادر في 06 أكتوبر 2023، المجمد والمسحوب فيما بعد، قد فتح أبواب جهنم، كما يرى البعض، على الوزارة الوصية ومن ورائها الحكومة، التي فشلت رغم تطمينات رئيس الحكومة المتكررة للشغيلة التعليمية ودعوته إياها إلى “إعمال النية” في كسب ثقة الشغيلة التعليمية وعلى رأسها الأساتذة، الذين شكلوا رأس الحربة في الإضرابات المتواصلة، وإعادتهم إلى الفصول الدراسية. فما هي أبرز الاعتراضات على النظام الأساسي؟

  • بالنسبة لموقف الأساتذة من النظام الأساسي الذي أتت به الوزارة فقد اعتبرته كل التنسيقيات المنتمين إليها، نظاما غير منصف لهيئة التدريس ولا يزال يكرس الازدواجية في القطاع بين أطر هيأة التدريس المنتمين للوزارة وبين أطر الأكاديميات التي تم اعتمادها مع نظام التعاقد المعمول به منذ سنة 2016. كما ترى أنه أضافها أعباء على مهامها الأصلية، مقابل (00.00) درهم تعويضات عن المهام المضافة، وهم الذين يعتبرون أنهم لا يزالون يشتغلون عند بداية مشوراهم المهني في سنة 2023 بأجرة سنوات التسعينيات من القرن الماضي. ورغم أنه، وبتوالي إضراباتهم اضطرت الحكومة إلى التوقيع على محضر 10 دجنبر مع النقابات الأكثر تمثيلية أعلنت فيه عن الزيادة في الأجور قدرها (1500.00) درهم تصرف على شطرين، شطر أول في فاتح يناير 2024، وشطر ثاني في فاتح يناير 2025، إضافة إلى إقرار صرف تعويضات عن المهام قدرها (500.00) درهم، والزيادة في تعويضات تصحيح الامتحانات على أن لا تقل عن (1000.00) درهم، إلا أن تلك التنسيقيات اعتبرت أن ذلك غير كافي وغير مقنع للأساتذة للعودة إلى الفصول الدراسية بالنظر إلى عدم تحقيق مطلب إلغاء التعاقد، كما أن تلك المبالغ تبقى دون الوعد الانتخابي الذي كان قد قطعه حزب رئيس الحكومة على نفسه للشغيلة التعليمية بزيادة 2500.00 درهم في أجورهم إذا هو فاز بالمرتبة الأولى في انتخابات 2021 وترأس الحكومة، .
  • في حين رأت أطر الإدارة التربوية، وخاصة المتصرفون التربويون، في النظام الأساسي الجمد والمسحوب فيما بعد، أنه غير منصف لإطارهم كما أنه لم يمنحهم المكانة الاعتبارية التي كانوا ينتظرونها، ولم يمحنهم التعويضات المتناسبة مع إطارهم.

 لكن الملاحظ على أن تنسيقيات “المتصرفين التربويين” أضافت إلى اعتراضاتها تلك، اعتراضات غريبة منها: اعتراضها على تسمية “الإدارة المدرسية” عوضا عن تسمية “الإدارة التربوية” التي كان معمولا بها في مرسوم 10 فبراير 2003 السابق. كما أنهم اعترضوا على تسمية إطار آخر يعمل داخل منظومة التربية والتكوين وهو إطار “مفتش المصالح المادية والمالية” سابقا، الذي أصبحت تسميته في النظام الأساسي الجديد المجمد ب “مفتش الشؤون الإدارية والمالية”. وهي اعتراضات، اعتبرها بعض المهتمين بالشأن التربوي، اعتراضات مستهجنة، كما أن فيها تطاول على اختصاصات الوزارة، بشأن صلاحيتها في تسمية وإعادة تسمية الهيئات والأطر العاملة بالقطاع. والدليل تسمية إطار “المتصرف التربوي” الذي أطلقته الوزارة على كل من كان أستاذا ينتمي لأطر هيأة التدريس وأراد ولوج “الإدارة التربوية” عبر بوابة مراكز تكوين أطر الإدارة التربوية المخصصة لهذا الغرض ابتداء من الموسم الدراسي 2014-2015. ناهيك عن التسمية الجديدة التي أضفتها الوزارة بحسب التعديلات المسربة عن لجنة الحوار، فيما يخص الأطر المشتركة بين الوزارات العاملة في القطاع التي أصبحت تسمى ب “متصرفي التربية الوطنية”.

 وبعيدا أن أي تعميق للحديث في هذا الباب عن الاختلافات الجوهرية بين الصيرورة الأكاديمية والمهنية لإطار “مفتش المصالح المادية والمالية” سابقا، “مفتش الشؤون الإدارية والمالية” حاليا، وبين إطار “المتصرف التربوي”، فإن تسمية إطار “متصرف تربوي” لم تأت بالنضال النقابي، كما هو معلوم، كما أنها أيضا  لم تأت عن طريق المساومات بين الوزارة الوصية وبين الأساتذة سابقا، المتصرفون التربويون حاليا، كما يقع الآن في الحوار المفتوح بين ممثلي الحكومة والمدافعين عن مطالب إطار “المتصرف التربوي”، بل جاءت التسمية باقتراح من الوزارة الوصية على القطاع ولم يعترض عليها حينها أي فئة أخرى من المنتمين للقطاع، فلماذا إذن تعترض تنسيقيات المتصرفين التربويين على الوزارة في تسميتها الجديدة لإطار “مفتش الشؤون الإدارية والمالية”؟ هل لأن المتصرفين التربويين يخشون من المراقبة الإدارية لمهامهم، أم أنهم يعتبرون أنفسهم فوق المراقبة، أم  أن المتصرفين التربويين، يضيف أولئك المستهجنون لاعتراضاتهم على التسمية، يمارسون مهمتهم التدبيرية التي اختاروا ولوج إطارها طواعية وعينهم على “هيئة التفتيش”؟ إنها أسئلة فعلا تحتاج إلى إجابة من تلك الهيئة، خاصة وهي لا تزال تضغط على المعنيين بالأمر من خلال بيانات تنسيقياتها المختلفة على ضرورة حذف تسمية “مفتش الشؤون الإدارية والمالية” من أي نظام أساسي جديد مرتقب.

  • بالنسبة لهيئة التفتيش، هيأة التأطير والمراقبة، وهي الهيأة التي لم تلتحق باحتجاجات باقي فئات القطاع إلا في الأسبوعين الأخيرين، خاصة بعض صدور محضر 10 دجنبر، فإنها ترى أن النظام الأساسي هو تراجعي أيضا بالنسبة لها، ولم ينصفها فيما يتعلق بتحصين إطار التفتيش ضد الريع، وأنه أضاف إليها مهاما جديدة في غياب التحفيز الحقيقي لها وهزالة مبلغ الزيادة في الأجور، ناهيك عن هزالة التعويضات عن الإطار المقترحة، إضافة إلى عدم توفير وسائل العمل المناسبة للقيام بمهامها الأصلية والإضافية، أضف إلى ذلك تكريس تبعية هيئة التفتيش للمدبرين الجهويين والإقليميين، وإغفال مطلب استقلالية الهيئة عن جهاز التدبير وجعلها تابعة للمفتشية العامة بوزارة التربية الوطنية.

في ظل أجواء الاعتراضات هاته، والرفض الذي أبدته مختلف مكونات قطاع التربية الوطنية للنظام الأساسي الجديد المجمد والمسحوب، ولا يمكن أن تجتمع أمتي على ضلالة، وجدت كل من الوزارة الوصية على القطاع والحكومة نفسيهما غارقتان في مشاكل القطاع التي أصبحت ككرة الثلج المتدحرجة منذ سنوات، والتي كان يتم تصديرها من حكومة إلى أخرى، الأمر الذي يبين للمهتمين بالسياسيات التربوية في بلادنا حقيقة غياب إرادة سياسية حكومية وقطاعية في التنزيل التام والتفعيل الحقيقي لجوهر مرجعيات الإصلاح المعتمدة. 

  1. إعلان الحكومة سحب مرسوم النظام الأساسي وإعداد مرسوم جديد.. ماذا بعد؟

خلال الأسبوعين الأخيرين، وفي ظل أوج فترة الإضراب، ومع طول مدته، مما أضح يهدد السنة الدراسية بالبياض، أعلنت الحكومة على فتح حوار شامل مع جميع ممثلي الشغيلة التعليمية في أفق تجويد العرض الحكومي بخصوص الملفات التي لها أثر مالي، كما العمل بمنطق تشاركي موسع، مع جميع الفرقاء التربويين، على إعداد مرسوم جديد للنظام الأساسي يكون أكثر إقناعا وتلبية لمطالب مختلف موظفي قطاع التربية الوطنية. في الوقت نفسه دعت الحكومة جميع النقابات والتنسيقيات إلى تعليق الإضراب والعودة إلى استئناف الدراسة مع مطلع آخر أسبوع من شهر دجنبر.

لكن، ووفق ما يراه المتتبعون لهذا الملف، فإن الحكومة مدعوة فعلا هذه المرة  إلى تجويد عرضها المالي للشغيلة التعليمية ومعالجة كل الملفات العالقة، كما أنه مدعوة أيضا إلى أن تتحسب خطواتها جيدا كي لا يؤدي ما سيصدر من مخرجات، نتيجة الحوار القائم بين اللجنة الحكومية والنقابات الأكثر تمثيلية وباقي النقابات الأخرى، إلى مآسي فئات أخرى عبر تلبية مطالب فئة أو بعض الفئات على حساب مطالب فئات أخرى عاملة بالقطاع. ناهيك عن ضرورة الحذر من تكرار العمل بنفس المنهجية التي تم تبنيها خلال فترة إعداد المرسوم السابق، وذلك عبر إضافة بنود ومواد آخر ساعة تجهز على مكتسبات فئة وفئات بعينها. 

وفي الختام، فإن من أهم عوامل نجاح اعتماد المنهجية التشاركية بين الحكومة وبين مختلف مكونات وممثلي الشغيلة التعليمية هو تجنب المنطق الفوقي في فرض مواد وبنود بالنظام الأساسي المرتقب لا تراع فيها حساسية قطاع التربية الوطنية بمختلف مكوناته، أو القفز فوق ما تم الاتفاق عليه، أو التنصيص عليه على أنه من المكتسبات التي يجب المحافظة عليها وتضمينها في النظام الأساسي الجديد  وذلك تجنبا لكل فوضى في قطاع استراتيجي للدولة والمجتمع مثل قطاع التربية والتكوين. 

بقلم: قاسم علوش، باحث في السياسات التربوية

أضف تعليقك

Leave A Reply

Exit mobile version