الدكتور الحبيب الشوباني
المقالة العاشرة
المسألة اليهودية من خلال نصوص أدبية وسياسية ومواقف ثلة من مفكري التنوير الأوروبي:
مسرحية “يهودي مالطا” ل كريستوفر مارلو (1589م)
اختيارنا الثالث يتعلق بالنص المسرحي الشهير بعنوانه المختصر “يهودي مالطاThe Jew of Malta” (العنوان الكامل هو: المأساة الشهيرة ليهودي مالطا الغنيThe famous tragedy of the rich jew of Malta )، لمؤلفه الشاعر والكاتب المسرحي الانجليزي Christopher Marlowe (1564-1593)، وهو أيضا صاحب النص المسرحي الشهير “مأساة الدكتور فاوستس The Tragical History of Doctor Faustus”. يستعرض هذا النص المسرحي بكثافة شديدة مشاعر الازدراء والاضطهاد المسيحي لليهودي، في مقابل مشاعر الحقد الديني الدفين لليهودي تجاه المسيحي، فيما تدور مأساة اليهودي دائما حول لعنة المال التي تطارده، يجمعه ويكدسه ليكون نهبا للأمراء والحكام والطامعين من كل صنف، وجميعهم يصنعون به لليهوديي “دورات شقاءه السيزيفيles cycles de sa misère Sisyphéenne” التي لا نهاية لها.
تدور أحداث المسرحية في جزيرة مالطا الخاضعة لصراع نفوذ عسكري وسياسي بين العثمانيين والإسبان. طبقا لشروط العثمانيين المتغلبين يتوجَّب على الحكام المسيحيين في مالطا دفع مبالغ كبيرة لمتأخرات الجزية التي لم تؤد لعشر سنوات، وقد أمهلهم الأتراك شهرا واحدا للأداء تحت طائلة تعرّض جزيرتهم لخطر اجتياح الجيش العثماني. لجمع هذه الأموال، قرر الحاكم المسيحي “فيرنيز” عقد جمع استثنائي لمجلس الشيوخ لاتخاذ القرار. توجه رأسا إلى اليهود ، وإلى أكثرهم ثراء التاجر “باراباس Barabas”، وطالبهم بدفع نصف ثروتهم لمواجهة الوضع المالي الحرج الدولة أو التحول إلى المسيحية. كل اليهود استجابوا بدفع نصف ما يملكون من أموال للحفاظ على دينهم، إلا الثري Barabas، فقد احتج على القرار ورفض الارتداد عن دينه، فتم الاستيلاء على جميع ممتلكاته، بما فيها بيته الفاخر الذي تم تحويله إلى دير للراهبات المسيحيات، نكاية في يهوديته. ولأن Barabas خبأ ثروة طائلة في المنزل، فقد خطط لاسترجاعها بإجبار ابنته “أبيجيلAbigail“على التظاهر بكونها راهبة، حتى تدخل المنزل وتسترد ماله؛ وقد فعلت ونجحت في مهمتها. للانتقام من حاكم المسيحيين وراهباتهم معاً، أجبر Barabas ابنته الجميلة Abigail على إغراء “لودويك” ابن الحاكم والاستسلام لرغباته، رغم علمه بأنها تحب “ماتياس” ابن “أم” راهبات الدير، ثم استدرجَهما لصراع حول من يكون خاطِبَ Abigail، انتهى باقتتالهما وموتهما معا. ولأن Abigail كانت تحب “ماتياس” فقد كفرت بيهوديتها رفضا لمكر والدها الذي أفضى لموته، ورجعت لدير الراهبات مُتَنَصِّرَةً لتعيش تديُّنها الجديد معهن. واصل Barabas مخططه الانتقامي فقرر حرمان ابنته من الميراث، وبعث عن طريق خادمه “إيثامور” صحن طعام مسموم للراهبات، فقتَل بالسم ابنته وراهبات الدير جميعا. قبل موتها أوصت Abigail راهبين بمساعدة والدها على التوبة والتحول للمسيحية. لكن Barabas تخلص من الراهبين بمساعدة خادمه بقتلهما خنقا بعد أن أغراهما بميراثه، ثم تخلص من خادمه وعشيقته المومس “بيلاميرا” ووسيطها في الدعارة، بالسم أيضا بعد تأكده أنهم يخططون لسرقة أمواله. بسبب جرائمه دخل السجن، لكنه تمكن من الهرب، فعبَر إلى الجانب التركي وقدم معلومات استخباراتية للأتراك مكنتهم من الاستيلاء على الجزيرة دون مقاومة تذكر، بعد إبلاغهم أن “فيرنيز” قرر عدم دفع الجزية، وأنه مستعد للحرب بتحريض من الإسبان. بعد هزيمة الأتراك للمالطيين تمت مكافأة Barabas بتعيينه من قبل الأمير التركي “سليم كاليماث” حاكماً لمالطا، لكنه سعى للتصالح مع الحاكم المسيحي الذي استأمنه الأتراك عليه بعد أسره هو وجنوده، وتعاون معه للتخلص منهم بقتل أميرهم “كاليماث” ومساعديه، في حفل أعد له منصة فاخرة على فوهة حفرة كبيرة مملوءة بسائل مغلي.. لكن القائد المسيحي فضَّل الثَأَر لابنه “لودويك” من قاتله اليهودي Barabas، فألقى به في الحفرة التي “حفرها بيده”، ومات موتة مأساوية.
لكأن Christopher Marlowe حرِص في نصه المسرحي أن يقول للعالم منذ سنة 1589 إن من خصائص اليهودي، كما هي منطبعة في العقل الباطني للمسيحي، التعصب لجنسه وإيمانه المطلق بعقيدة العِرق السامي، وأن غدره وأنانيته وشجعه صفات ملازمة له منذ نشأ، وأنه لا يتورع عن استعمال الجنس (توظيف المرأة) للوصول إلى مآربه، ولا يقف فى سبيل تحقيق أهدافه وأطماعه وانتقامه أي عقبة من دين أو خُلق، أو تقاليد، أو أي مبدأ من المبادئ الإنسانية؛ وأن من السمات المتأصلة فيه خيانة العهد، والغدر، والخداع، والدهاء، والمراوغة، والبخل، والربا، وعبادة المال، والکذب، والنفاق والتملق، وأنه يعشق الفتنة وتدبير المكائد والوقيعة بين الناس، والجحود وعدم الوفاء حتى لأقرب الناس إليه، والجبن، والرشوة، وأنه يکره المسيحيين والمسلمين على السواء، ولا يثق في الآخر مطلقا.
لاستكمال صورة دلالات النص في علاقته بموضوع مقالاتنا حول “المسألة اليهودية” في أبعادها التاريخية والنفسية والثقافية، كما تشكلت تعقيداتها في تاريخ أوروبا المسيحية، نكتفي بعرض المقاطع التالية:
- يتحدث “باراباس” عن علاقة اليهودي بالمال فيقول وهو يقلب أكوام المال المكدس في بيته: “ھكذا تأتي ثروتنا برّاً وبحراً وهكذا یصیبنا الغنى من كلّ جانب. ھذه ھي نِعَمُ الیھود الموعودة، وھنا كانت تكمن سعادة إبراھیم الخليل. ما الذي یمكن للسماء أن تقدّمه إلى الرجال الدنیویین أكثر من أن تصبّ الكثیر في أحضانهم بشقّ أحشاء المعمورة من أجلھم، وجعل البحار عبيدهم، وأمر الرياح لتحمل بضاعتهم بِهبَّاتٍ ناجحة؟ من ذا الذي یكرھني إلا لأني سعیدٌ؟ ومن ذا الذي یُبجَّل إلا لثروته…؟ أَفضَلُ لي وأنا یھوديّ أن یكرھني الناس، على أن یُشفقوا عليّ وأنا مسیحي فقیر، لأنني لا أرى أيّ ثمار في عقیدتھم كلّھا إلا الخبث والغش والغرور الزائد الذي برأيي لا یناسب ادّعاءھم (..) يقولون عناّ إننا أمّة مبعثرة: لایسعني الحكم، ولكننا جمعنا حتى الآن ثروة أكثر من أولئك الذين یتفاخرون بالإيمان. فھناك “كیریا جیریم”یھوديّ كبیر في الیونان، و”أوبید” في بیرسیث و “نونز” في البرتغال وأنا في مالطا والبعض الآخر في إیطالیا والعدید في فرنسا، وكلّ منھم ثري، نعَم ثري، وأثرى من أيّ مسیحي. علي أن أعترف بأننا لسنا ملوكاً وھذا لیس خطأنا: وأسفاه عددنا قلیل! وتیجان المُلك لا تأتي إلا بالوراثة أو بالقوّة، ولم أسمع عن شيء قسريّ یمكن أن یدوم…”.
- بعد قرار مصادرة أمواله كلها، وفي حواره مع الحاكم (فيرنيز) وبعض فرسانه تدور المساجلة التالية: “(باراباس): ھل ستسرقون ممتلكاتي؟ ھل السرقة أساس دینكم؟ (فیرنیز): كلا، ولكننا سنأخذ مالك لننقذ دمار الجمیع. فلأن یُفَقّر شخص واحد في سبیل خیر عام أفضل بكثیر من أن یموت الكثیر من أجل رجل واحد، ولكن یا (باراباس ) لن ننفیك، وھنا في مالطا حیث جمعت ثروتك یمكنك الاستمرار في العیش وإن استطعت إجمع مالاً أكثر. (باراباس): أیّھا المسیحیّون، كیف لي أن أضاعف ثروتي؟ فلا یمكن لشيء أن یأتي من العدم. (الفارس الأوّل): من العدم كسبت ثروة قلیلة، ومن الثروة القلیلة جنیت أكثر فأكثر. فإن حلّت لعنتك الأولى على رأسك بقوّة وأَرْدَتْك فقیراً ومحتقراً في العالم، فھذا لیس ذنبُنا، بل ھي خطیئتك الملازمة لك. (باراباس): ماذا؟ ھل تقتبس من الكتاب المقدّس لتثبت أخطاءك؟ لا تلقِ عليّ الوعظ لتسلبني ممتلكاتي، فبعض الیھود خبیث كما ھي حال كلّ المسیحیین، ولنقل إن القبيلة التي انحدرتُ منھا طُردوا بعیداً ونُفوا بسبب الخطيئة، فھل عليّ أن أُحاكم على عصیانھم وخطیئتھم؟ على المرء المستقيم في تعاملاته أن یعیش، ومن منكم یستطیع أن یتّھمني بعكس ذلك؟”.
- أما عندما يتحدث عن نظرته للمسيحيين، فإن “باراباس” يصفهم بلا تردد: “رغم أنف هؤلاء المسیحیین آكلي الخنزیر(“الشعب غیر المختار ” وبدون خِتان !) لیسوا إلا أوغادا مساكين ولم نُقِم لھم وزناً قط حتى غزانا “تایتاس” من أتباع “القدیس بول”، وھا أنا أغدو ثریاً كما كنت. لقد كانوا یأملون أن تصبح ابنتي راھبة ولكنھا في البیت، وأنا اشتریت منزلاً فخماً كبیراً وجمیلاً كمنزل الحاكم، وھناك ورغم أنف سكان مالطا سأمكث، ولأني كسبت ید (فیرنیز ) الذي سأحصل على قلبه وقلب ابنه أیضا، (..) أنا لن أنسَ بسرعة الضرر، فنحن الیھود یمكننا أن نتملّق كالكلاب عندما نشاء، وعندما نتألّم نَعَضّ، ومع ذلك فمنظرنا بريء ومسالم كالحَمل. تعلّمت في فلورنسا أن أقبّل یديّ وأرفع كتفيّ عندما ینادونني كلبا،ً وأخفضهما جداً كأي راھب حافي القدمین، وكلّي أمل أن أراھم یتضورون جوعاً على المربط، وإلا مجتمعین في معبدنا (الكنیست)، وعندما یأتي حوض الھبات إليّ حتى للإحسان فسأبصق فیه”. وعندما يوجه خادمه الذي اشتراه من سوق النخاسة، فإنه يعلمه قواعد السلوك التي سيحتاجها منه لاحقا، ويخاطبه قائلا: “استمع إلى كلماتي، وسأعلّمك ما علیك الالتزام به. أولا، تخلّ عن ھذه العواطف، كالعطف والحب والأمل الفارغ والخوف القاسي. لا تتأثر بأي شيء، ولا تشفق على أي أحد. ولكن ابتسم لنفسك عندما یتألم المسیحیون”. ثم يضرب له المثل بنفسه وكيف يتصرف مع محيطه المسيحي: “بالنسبة إليّ أمشي خارجاً في الليل، وأقتل المرضى الذين يئنون تحت الجدران، وأحیاناً أخرج وأسمّم الآبار، وبین الحین والآخر أُدَلل اللصوص المسیحیین وأنا راض بخسارة بعض القطع النقدیة، فقد أراھم أثناء تجولي في قاربي بالقرب من باب منزلي. وعندما كنت شاباً درست الطبّ و بدأت أطبقه على الإیطالیین، و ھناك أغنیتُ الكهنة بالقبور ، وجعلت أیدي الحانوتي دائماً مشغولة بحفر القبور، و قرع نواقیس الموتى، و بعد ذلك أصبحت مھندساً في الحرب بین فرنسا و ألمانیا، و تحت ذریعة مساعدة الملك تشارلز الخامس ذبحت الصدیق و العدو من خلال خططي، وبعد ذلك أصبحت مرابیًّا و بالابتزاز والخداع والتزویر وأسالیب الغش المتعلّقة بالسمسرة ملأت السجون بالمفلسین خلال سنة واحدة، وملأت المستشفیات بالأیتام الجدد، وكل لیلة أجعل البعض مجنونا، و بین الحین و الآخر یشنق أحدهم نفسه حُزناً بعد أن یكون قدّ علّق ورقة طويلة على صدره تُظھر كم عذّبتُه أنا بالفائدة. ولكن انتبه! كیف أنني موھوب بتعذیبھم، إذ عندي من المال ما یكفي لشراء المدینة برمتھا”.
- وفي مواجهة لحظات نهايته المأساوية، أحاط به مَكْرُه والمصائب من كل جانب، وتأكد أنه هالك رغم أنه صار حاكما لمالطا في لحظة خاطفة لم تدم طويلا، فأخذ يبوح بَوْحاً تراجيديا يلخص فيه حياة اليهود منذ الشتات، ويقول: “ھل تعذّب أي یھودي مثلما أتعذّب؟ بأن یأتي وغد قذر یغتصب مني ثلاثمائة قطعة ذھبیة، ومن ثم خمسمائة أخريات! (يقصد خادمه الذي نفذ جرائمه ثم انقلب عليه وصار يبتزه لينفق المال على المومس “بيلاميرا” ) حسناً، عليّ أن أجد طریقة كي أتخلّص منھم جمیعاً وبسرعة، لأنه من نذالته سیبوح بكل شيء، وسأموت إن فعل ذلك (..)لم أحصل لنفسي على مكان بسیط أو سلطة صغیرة بھذه الخطّة، لكنني الآن حاكم مالطا. صحیح، ولكن مالطا تكرهني وفي كُرھھا یكمُن الخطر على حیاتي، لأنّ الذي یعیش في السلطة دون أصدقاء أو مال كثیر ، یعیش كالحمار الذي یتحدّث عنه “أیسوب”.. فھو یتعب بحمل الخبز والخمر، ویوقعھم لیأكل شوك الحقول”.
(يتبع في المقالة الحادية عشرة)